بات واجبًا أن نتصارح، بما يتجاوز الوضوح، فحين تكون الأنواء والعواصف عاتية، حتى يكاد القارب معها أن يهوى فى قاع المياه العميقة بما يعنى الموت الجماعى المحقق، فلا مجال لأن نتحدث عن قميص غير مهندم، أو رابطة عنق لم توثق فيونكتها جيدًا، أو بنطلون لم يتم كيه بشكل محكم! وبوضوح مماثل يتعين أن نعترف أن هذه النخبة المهيمنة منذ ثلاثة عقود، أو تزيد، قد رسبت فى كل الاختبارات بصورة كارثية، وفشلت فى تحقيق أى حلم شعبى، تألق فى مخيلة الشعوب، حتى مجرد "التعايش البدائى" بين الفرقاء الإيديولوجيين: الليبرالى واليسارى والإسلامى، ( بمعنى مجرد أن يحيوا " معًا" ويأكلوا فى صحفة واحدة و يستخدموا نفس المرافق !) لم تستطع " نخبة العار" أن تحل أزمته المستحكمة، أو تحلحل هذه الأزمة قليلاً ولو سنتيمترات، بل إن هذه النخبة المفتقرة إلى النزاهة و الكفاءة معًا، كانت مسئولة عن هذا الاستقطاب العدائى المحزن بصب البنزين على النار و إيغار الصدور دون توقف، وتبنى الخطاب التحريضى من كل الفصائل، فبدا الوطن خيمة تعسة يتنازعها كل فريق، و لا حلم له إلا قهر الفريق الآخر، والرقص على جثامين أفراده، بزفة " بلدى" تعتمد على الكيد و الإغاظة، لا صلة لها بثقافة، ولا رابطة بينها و بين أى فكر أو تصور أو رؤية من أى نوع للمستقبل . لا ترى هذه النخبة التى تلصق نفسها _ زورًا _ بقاطرة الثقافة عنوة، إلا "ملطوعة " فى مقاهى وسط البلد، حيث النارجيلة والكابتشينو وإطلاق النكات الجنسية، والقهقهة فى الفراغ، جلدهم سميك لا يحسون بمواطن، ولا يتحدثون عن "الأزمات الشعبية العنيفة " إلا بقلة اكتراث واستخفاف، ولا أمل لهم إلا أن يطبعوا كتابًا ليحققوا مجدًا شخصيًا، أو ينالوا جائزة، أو يقفزوا فوق عضوية لجنة كبيرة، أو يقتسموا قطعة كعك فى مؤسسة أو حقيبة وزارية، أو كيان ثقافى عربى، يمنحهم "نفحة" من عوائد النفط السخية!. لا تتحرك بوصلتهم إلا عكس ولاءات الناس، فهم يجندون أنفسهم _ معظم الوقت _ لقهر هوية الأمة ( فى رهان خسيس على إعجاب الكفيل الأمريكى أو الأوروبى، أو مغازلة أخس للجوائز العالمية)، والسخرية من رموز ماضيها المجيد، والنهش فى أعراض الصحابة والرموز الوطنية والأبطال التاريخيين، كأنما تآمروا لتفريغ الهوية بشكل عبثى لا طائل تحته، وخلق حالة فراغ كارثى يعبث به الخواء العبثى والعدم و الإحباط، دون تثبت بعلم، أو تحقق برؤية متكاملة أو عميقة، ودون مخاطرة بأى صدام _ من أى نوع _ مع سلطة أو قوة كبيرة، تفقدهم الاحتكارات، أو مجرد الوجود "الطفيلى" فى المشهد، خذلوا الحرية فى كل المنعطفات، وسخروا من فقر الغلابة ورثاثة ثيابهم، بل اتهم بعضهم هؤلاء الغلابة بالإلحاف و قلة الكرامة، والتعدى الطفيلى على ممالك الأسياد! عشرات من سيل الكتب _ غير المفيدة فى أكثرها _ لا تكف هذه النخبة الوظيفية المتربحة، عن قيئه دون توقف أو ملل، و لم ترفع هذه الكتب للناس وعيًا، و لم تحل لهم أزمة، و لم ترسم لهم معلمًا للخلاص بأى طريقة لأن " الناس " من الأصل كانوا خارج دائرة هذه الحسابات النخبوية!. اجتمع " ملتقى الرواية العربى "بالمجلس الأعلى للثقافة فى مصر قبل أيام، وانفض دون أدنى فائدة أو عائدة لهؤلاء المطحونين من الرقعة الجماهيرية الواسعة، جلس الروائيون والنقاد الأشاوس الذين تم اختيارهم بعناية وفق كتالوج السمع والطاعة و"باترون " المرحلة _ و كل المراحل الماضية ! _ ، فى كافيتيريا المجلس الأعلى، كما رأيتهم، فاحتسوا المشروبات وأطلقوا دخان سجائرهم فى الفضاء بعجرفة وتعالٍ، لم تقدم نخبة الثقافة المصرية، ورقة بحثية واحدة تسترد شرف الفكر المصرى المهيض، ولم يقدم أفراد هذه النخبة الكالحة شيئًا واحدًا يفيد الناس، بل تسابق كثيرون لنيل الصور "السيلفى " والتحديق فى الفراغ و الابتسامة البلهاء، وسط ألسنة النيران، التى تعبث بأحشاء الحاضر، وتصادر جزءًا من آمال المستقبل فى حاضنة جماهيرية مخذولة محطمة، تعانى من الأمية الأبجدية و الشق الاستقطابى العدائى غير المسبوق، والفقر المذل! ولم يقف أحد من هذه النخبة الضاحكة أمام الكاميرات ليسأل: "ما قيمة ما أكتب، إن لم يتغير الناس إلى الأفضل ؟! وهل هناك صلة بين ما أكتب وبين الناس ؟! و هل يصل ما أكتب إلى الناس أصلاً، فى وقت تتجه فيه الثقافة فى العالم إلى الحالة الجماهيرية وعودة كتاب الجيب الشعبى أو ما يعرف باسم " Livre de poche "، تحدث هذه التطورات، ولا تكف نخبة الدفع الرباعى والانتكاسات فى بلادنا، عن ضخ الخطاب التحريضى الأسود، ومعاداة الإسلام تحديدًا بشكل مجانى، والبعد عن أى منطقة لحلحلة أصل الأزمة أو استدعاء فكرة "العقد الاجتماعى" لمجرد أن "يعيش الناس معًا" . والمدهش أن هذه النخبة التى تتربع الآن فوق الأطلال والأنقاض التى صنعتها أنانيتها وضحالتها وقلة نزاهتها، دون أن تعترف بأى خطأ، أو تقر بأى تجاوز أو تقصير، تناغمًا_ كما قلنا _ مع نظرية "الجلد السميك"!. حدثنى أحدهم عن قائمة كتبه، وجوائزه، وسيرته الذاتية بعين زجاجية متجمدة، وبإملال اقترب من الساعة، دون أن يضع كلمة " الناس" أو "البسطاء" فى جملة مفيدة، كأنهم ليسوا فى حساباته، وكأنه ليس منهم! وداخلنى السؤال الكبير: "هل لهذه النخبة فائدة من أى نوع ؟! " وكان من أسوأ جرائم هذه النخبة الموتورة، أنها كرست "ماكينة التأليه" للقيادات بصورة عامة، فلم تكف عن النفاق و حرق البخور ! فأحدهم _ وهو كاتب روائى عجوز معروف _ استقطع جملة من خطاب لمسئول، و جعل يقدم تحليلاً معمقًا حول بلاغتها فى مقال اقترب من نصف الصفحة ! و آخر ( و هو كاتب روائى كبير ) اقترح غلق الجامعات المصرية عامين، لتأديب الطلاب ! وهناك كاتب صحفى كبير قال عن مسئول سابق : " لولاه لكانت الدنيا غيرالدنيا ! " و تتعدد ماكينات التأليه الرديء، بتأثير هذه النخبة، التى لم تمتلك يومًا ما ما أسماه المفكر البرازيلى الكبير " باولو فيريرى": "الشجاعة المدنية "! فهى ليست مستعدة بمخاطرة من أى نوع فى أية مساحة جادة، لشق مسارب لوعى جديد، بما يعنى أنها حالة غير قابلة للترميم!. فى عام 1966 زار المفكر والروائى الفرنسى الكبير "أندريه مارلو " مصر، و افتتح عددًا من المشروعات الثقافية، وكان وزيرًا لثقافة فرنسا، والرجل الثانى فى حكومة " ديحول " _ بعد " بومبيدو" _ وأطلق المثقفون المصريون شهقة الدهشة من تاريخ الرجل، الذى حارب الألمان ووقع فى الأسر من قبل "الجستابو"، وناضل عن الحريات المدنية بقلمه فى كل المحافل، ودافع عن حقوق الناس فى سلسلة رواياته "الغزاة " و "الطريق الملكى" و "القدر الإنسانى "، وسافر بنفسه إلى " هتلر" _ فى عقر داره _ فى سطوة الحركة النازية _ دفاعًا عن " ديمتروف "، دهشت النخبة المصرية من مخاطرة الرجل و دفاعه الصلب عن الحريات، وهى التى تربت على حرق البخور والأسلاب والغنائم، و قال لهم "مارلو" وهو يودعهم فى المطار: "الإنسان الجاثى على ركتيه لا شرف له، مهما كانت معتقداته و دعاواه " ! و تضاعفت شهقة النخبة و لا تزال شهقتها المستغربة حتى الآن !!. بوضوح و بعد ما رأيت فى الأنشطة الثقافية الأحدث لهذه النخبة " الأزلية " الكارثية، أقول للشعوب: "الفظوا هذه النخبة المسمومة الموتورة، وابحثوا عن نخبة أخرى أكثر إنسانية و عمقًا، وأقل تآمرًا وتحريضًا، وليكن هدفنا فى الفترة القادمة "تكهين" هذه النخبة، والاستعاضة عنها بنخبة أخرى، غير متشنجة أو متربحة أو متآمرة!.