موقف للميكروباصات.. باعة.. أعمال المترو.. «زحمة يا دنيا زحمة» باعة «البالة» تركوا «الترجمان»: الرجل هناك خفيفة.. وفواعليه: «قال إيه رماك على المر؟» مستشفى الجلاء مقصد للغلابة: مش معانا نروح للمستشفيات الخاصة تمتزج صرخات الحوامل بصرخات الباعة الجائلين وأبواق السيارات التي تجلب الضوضاء ليلًا ونهارًا، في محيط مستشفى الجلاء للولادة بمنطقة الإسعاف في قلب القاهرة في سيمفونية متنافرة مثيرة للإزعاج، فالحركة لا تهدأ على مدار ال 24 ساعة في هذه المنطقة الحيوية، التي يغيب عنها الهدوء، لتزيد من أجواء القلق والتوتر في النفوس، بين حامل تتوجع في انتظار المولود، وأهل قدموا معها يقتلهم الخوف والقلق عليها. ربما ساعد على هذا التكدس والازدحام بالمنطقة، الأعمال الإنشائية الجارية لتشييد خط المترو الثالث في محطة جمال عبد الناصر، وهو ما زاد من حالة الصخب، في ظل حركة عمل لا تهدأ ولا تتوقف على مدار الساعة. وحولت الأسوار الحديدية المكان إلى ما يشبه "علبة السردين"، ولا مفر أمام الآلاف من المرور يوميًا، حيث لا توجد طرق أخرى بديلة، فهي منطقة حيوية جدًا تخدم سكان القاهرة الكبرى والوافدين من المحافظات لإنهاء مصالحهم. وتعد مستشفى الجلاء أكبر مستشفى حكومي متخصص في الولادة، وتقصدها الفئة العريضة من المواطنين، ذوي الدخل، من لا يمتلكون القدرة على الذهاب بزوجاتهم إلى طبيب أو مستشفى خاص. فضلاً عن أن المنطقة المؤدية إلى "وكالة البلح" هي مقصد لكثير من المصريين الذين يبحثون عن الملابس المستعملة "البالة" نظرًا لرخص سعرها مقارنة بالجديدة، وعلى الرغم من نقل الباعة الجائلين قبل سنوات إلى منطقة الترجمان القريبة إلا أنهم سرعان ما عادوا إلى أماكنهم القديمة؛ سعيًا وراء الرزق الذي عانوا من قلته في الترجمان، على حد قولهم. والمار يجد صعوبة بالغة في الحركة، نظرًا لهيمنة باعة الوكالة والباعة الجائلين على الطريق، وبالقرب منهم يجلس "الفواعلية" على الرصيف في انتظار من يستعين بخدماتهم. البالة يتمركز باعة البالة فيما يعرف ب"الوكالة" في شارع 26 يوليو من جهة بولاق أبو العلا، والشوارع المتفرعة منه، والبالة هي الملابس التي يتم تجميعها داخل بالات مكبوسة ومحزمة بالشنابر. ويقصدها المواطنون من مختلف المحافظات، لرخص أسعار الملابس المستعملة المستوردة من الخارج. وتحمل "الإستاندات" مختلف أنواع الملابس لمختلف الفئات العمرية بأسعار تبدأ من 5جنيهات، وتصل إلى 150 جنيهًا حسب الخامة ونوعها. والاتجار في البالة مسموح به قانونًا؛ طبقًا للقرار وزاري رقم 770 الصادر في عام 2005، إلا أنه يتم تهريب بالة غير مطابقة للمواصفات القياسية، وأحيانًا يدخل جزء منها بطرق غير شرعية، ويتم تهريبه رغم منع استيرادها. ولكن يتم التلاعب باسم الجمعيات الخيرية لدخول تلك الملابس المستعملة بدون جمارك أو مقابل مادي، ويتم بيعها من الباطن من غير أن تخضع للحجر الصحي، وهو ما يجعل منها مصدرًا للملابس الحملة بالأمراض والأوبئة. وأهم الأمراض التي تسببها البالة هي "الربو، والحساسية، والأمراض الجلدية"، نتيجة تخزينها فترات طويلة خلال الشحن من بلد لآخر، خاصة أن جزءًا كبيرًا منها مهرب. وتكون ناقلة للأمراض والعدوى والفيروسات التي لا تموت، كما أنها قد تحمل في طياتها الحشرات الضارة كالقمل والقُراد وغيرها من الأمراض التي تصيب الأطفال مثل عدوى البكتريا الطفيلية وأكزيما التلامسية. ومن الممكن أن تسبب مرض الأكزيما والتينيا والبهاق، طبقًا للأبحاث الطبية التي توصل إليها أطباء الأمراض الجلدية. ويقول أحد مستوردي البالة بالوكالة ل"المصريون": "يوجد نوعان من الملابس التي يتم استيرادها موديلات وماركات قديمة لمحلات أوروبية، ويقوم المورد الأجنبي ببيعها للمستورد المصري بأسعار أقل بغرض التخلص منها. وأضاف: هناك نوع آخر من الملابس وهي المستعملة والمتهالكة، التي يتخلص منها الأوربيون كل عام ويشترون ملابس جديدة، ويقوم التجار في أوروبا بتجميعها وبيعها لمستوردين من مصر ودول أخرى مقابل مبالغ زهيدة". وطبقًا لإحصائيات الرقابة على الصادرات والواردات، فإنه خلال عامين ماضيين دخل مصر 13 ألفًا و852 شحنة ملابس جاهزة مستوردة وحجمها 10 ملايين و334 ألفًا و558 طنًا من الملابس الجاهزة. بينما ضُبطت شحنات من الملابس ضارة ومسرطنة وغير مطابقة للمواصفات عددها 206 شحنات ملابس جاهزة، حجمها 236 ألفًا و69 طنًا، لوجود صبغات مسرطنة في هذه الملابس تسبب السرطان عند ارتدائها. وتقول بعض السيدات اللاتي يقفن أمام "إستاندات البالة"، ل"المصريون": "هنا الحاجة حلوة وسعرها مناسب وكل حاجة موجودة، وخصوصًا أن الأسعار في المحلات غالية جدًا، وهنا بشتري بسعر حاجة واحدة بره 3 أو 4 حاجات". من الوكالة إلى الترجمان "رايح جاي" على الرغم من صدور قرار بمنع الباعة الجائلين من الوقوف في منطقة وسط البلد، وخاصة منطقة الإسعاف وشارع الجلاء، وتخصيص أماكن للبيع لهم بالترجمان، إلا أنهم عادوا مرة أخرى لأماكنهم القديمة، محتلين الطريق العام والأرصفة. وأصبحوا يشكلون مصدرًا للزحام، وينافسون السيارات في إثارة الضوضاء، حيث لا يتوقفون عن الترويج لبضاعتهم طوال الساعة، وعلى بالرغم من حملات الحي المستمرة، إلا أنهم سرعان ما يعودون إلى أماكنهم من جديد، متحدين كل قانون، ضاربين بكل قرار عرض الحائط. ويقول بائع يفترش الطريق ببضاعته المتنوعة ما بين أكياس للملبس والحلوى والبسكويت ل"المصريون": "جوه في الترجمان ما كناش بنعرف نبيع، الرجل كانت قليلة والمشوار بعيد علينا وعلى الناس، لكن هنا قدام المترو الرجل رايحة جاية، واللي رايح وجاي بيشتري". وقاطعته سيدة كانت تقوم بالشراء منه، قائلة: "إحنا لسه هنروح الترجمان، الحاجة هنا في طريقنا، واللي عايز حاجة بيلاقيها، وسعرها حلو وكل حاجة بلاقيها حتى الخضار بخده جاهز من بياعة هنا، وبريح نفسي وأجيب حاجتي، وأنا مروحة من الشغل جاهزة وسعرها حلو، ومش مهم الزحمة خدنا على كده". سوق «الفواعلية» يفترش أرصفة الطريق في شارع الجلاء رجال من مختلف الأعمار، الذين يمتهنون العمل في الفاعل، ويضعون أمامهم أدواتهم التي يستخدمونها في البناء والهدم، مثل "الأصعة والجاروف والقادوم والمرزبة وأحبال وأشولة". يبدو على الجميع حالة الهزال، وهم يرتدون ملابس رثة، بعضها يبدو عليه أنه لم يفارق جسد صاحبه منذ أيام، يتفحصون أوجه المارة؛ أملًا في انتظار أن يناديهم أحد من أجل عمل أو صدقة، حتى لا يعودوا خالين الوفاض. ويختارون منطقة الجلاء؛ لأن بها مواصلات لمختلف الأحياء الجديدة الجارٍ العمل بها مثل أكتوبر والشيخ زايد والقاهرة الجديدة وغيرها، لكن إذا ضاق بهم الحال وظلوا دون عمل لعدة أيام فيكون البديل أن يشدوا الرحال إلى مكان جديد. إذا ما وقفت سيارة أمامهم، يهرولون إليها مسرعين، لتبدأ المفاوضات على الأجر الذي سيتقاضونه، في الوقت الذي يهددهم فيه مقاول الأنفار بأنه سيتركهم ويبحث عن غيرهم إذا لم يقبلوا بالعرض المقدم لهم. ويجدون أنفسهم مضطرين في النهاية للقبول بالعمل مقابل أجر يتراوح بين 35 و50 جنيهًا في اليوم الواحد للعامل وما بين 50 إلي100 جنيه للصنايعي، مهما كان العمل من هدم أو بناء في رحلة عذاب يومية لا مفر منها، فلا يوجد بديل لهم، خاصة أن غالبيتهم من الوافدين من محافظات أخرى، فلا مأوى ولا مصدر رزق إلا قواهم الضعيفة. يقول أحد الفواعلية متحدثًا بأسى ل"المصريون": "هنعمل إيه، أنا من المنيا وما فيش شغل في بلدنا، وقلت أجي هنا وأبواب الرزق هنا كتير، أنا وبلدياتي 15 واحد ساكنين في أوضة واحدة بندفع إيجار الأوضة مع بعض، وبناكل أي حاجة، وبنتعرض لمشاكل كتير وبيتقبض علينا علشان وقفتنا علي الرصيف، ومشاكل مع المقاولين، ومرار عايشين هنعمل إيه لغاية ما ربنا يشوف لنا حل في اللي إحنا فيه". مستشفى الجلاء تتعرض مستشفى الجلاء للحصار من قبل البالة والباعة الجائلين والفواعلية المفترشين الطريق، إلى جانب أعمال الحفر بالمترو التي تسببت في إجلاء مبنى العيادات منذ عدة أسابيع. وقال الدكتور محمد فوزي، أمين عام المستشفيات التعليمية إنه "تم الإجلاء نتيجة لأعمال الحفر الجارية بالخط الثالث لمترو الأنفاق؛ لتعرض بعض مباني المستشفى القريب من موقع العمل للاهتزازات متكررة؛ ما أثار الفزع في نفوس المرضى والمترددين على المستشفى، ودفعهم إلى الصريخ والهروب". وأضاف: "تم بالفعل إخلاء المبني حتى التأكد من سلامته، وتعهدت الشركة المنفذة لأعمال المترو باستخدام طريقة عمل، بما لا يسبب الذعر للمرضى، ويحافظ على المستشفى من عوامل الخطورة". وتقول سيدات يرافقن بعض الحالات التي دخلت للولادة، بينما يجلسن أمام أبواب المستشفى، ل"المصريون": "زحمة زحمة هنعمل إيه ما فيش مكان تاني نولد فيه غير هنا، المستشفيات كلها غالية، لكن هنا بيهتموا بالوالدة وبعيلها، وبندفع رسوم بسيطة وبعدين إحنا شوية وماشيين هو يوم ولا اتنين بالكتير قدام المستشفي وخلاص". المحافظة: الباعة لا يلتزمون وقال المهندس أحمد محمد عبد المنعم بصندوق تطوير العشوائيات، ل"المصريون": "المحافظة تعمل باستمرار على تجميل الأحياء وإزالة المخالفات، وتوفير أسواق للباعة الجائلين مثل "الترجمان" لكنهم لا يلتزمون بها، واعتادوا على التعدى على الرصيف بافتراش بضائعهم". وأضاف: "هم يبحثون عن الزبون بالشوارع وليس العكس، وحاليًا نحاول توفير أسواق جديدة تتلاءم مع متطلبات البائع والمواطن، سواء كانت للبالة أو الباعة الجائلين، وسيكون هناك ممر مشاة بين الباعة لسهولة الوصول إليهم وستكون قريبة من محطات المترو، ومع وجود هذه الأسواق ستصبح الأمور أكثر تنظيمًا".