فى مصر مئات من الصحف والمجلات والدوريات، وهذه المئات تحفل بكتابات لكتاب من مختلف الألوان والاتجاهات، وأيضا من مختلف الأحجام، فهناك العمالقة المحترفون، وهناك الأقزام، وهناك المتطفلون على القلم والقرطاس، وأضحت الصحف والدوريات بكثرتها سوقا كبيرا تعرض فيه كل هذه الإفرازات، وبالتالى أصبح من الصعوبة بمكان أن يجد صاحب القلم الجاد ذى الإفرازات الصحية، موطأ قدم وسط طوفان المكاتيب هذه. وقد لا أقول جديدا إذا أشرت إلى أن الخلق بدأ بكلمة، وأن أول ما خلق الله تعالى كان القلم، وأمره أن يكتب، فكتب بأمر خالقه سجل الدنيا والآخرة، وحفظ الله ذلك فى اللوح المحفوظ، فالكتابة إذن سبقت جميع الموجودات، لأنها نقلت الإرادة الإلهية للخالق جل شأنه للكون بأن يكون فكان. وصاحب القلم يقوم بما يقوم به الملائكة الكرام، ومن هنا يكون عبء أمانته ثقيلا، فهو صاحب رسالة سامية، وبالتالى فليس كل من أمسك القلم كاتبا، تماما مثلما قال الشاعر: ليس كل من نظم القوافى شاعرا.. ولا كل من ركب الخيل خيالا. صاحب القلم هو ذاك الإنسان الذى وهبه الله تعالى قدرة انتقاء الكلمات، وحياكة التعبيرات، وإنشاء العبارات، ليصيغ فى نهاية الأمر شيئا له ملامح خاصة أشبه بمخلوق يتفاوت جماله وجاذبيته وتأثيره بقدر ما لصاحبه من قدرة على إتقان صناعته، ومن هنا يظهر الفرق بين الكاتب الحرفى، وغيره الذى ظلم نفسه والآخرين حينما أمسك بالقلم، وتقيأ بحروف وكلمات ليحيك ما يشبه الثوب الرث، الذى تشمئز منه الأنفس، وتتلوث منه الأجواء. تحضرنى هذه الأفكار فى وقت تموج فيه الساحة بمئات القضايا التى تشكل المادة الخام التى ينحت منها الكاتب كلماته، ثم يجد الفرصة لطرح تعليقاته وآرائه, وأيضا معتقداته، بكثير من الحرية والشفافية، فمصر تشهد مخاضا لأحداث غير مسبوقة، شاء لنا الله أن نكون شهودا عليها، فنحن نعيش بواكير ثورة تاريخية كبرى سوف تغير وجه مصر بشكل جذرى، وملامح هذا التغيير بدأت تظهر وتتضح حدوده يوما بعد يوم، لكن كعادة الثورات مازال فلول النظام القديم يبذلون قصارى جهدهم وإمكانياتهم لمحاربة هذه الثورة التى دمرت حرثهم الخبيث وقتلت أحلامهم، فباتوا يحيكون المؤامرات بليل، وينشرون من خلال صحفهم الأكاذيب المضللة، وينفثون الشتائم الخارجة التى تمثل سابقة فى تاريخ الصحافة المصرية منذ وجدت. رموز الفساد فى العهد البائد الذين نهبوا المليارات من دماء الشعب ينفقون الآن منها على كثير من الصحف والفضائيات فى محاولة يائسة منهم للقضاء على الثورة، وكادوا ينجحوا فى سعيهم الخبيث بمساعدة المشير ومساعديه، لولا أن قيض الله لمصر رجلا اختاره شعبها ليكون حاكما له، أخلص عهده لله، فنصره الله على القوة التى كانت تناوئه الحكم، وتعمل قدر جهدها لإعادة النظام القديم. الصحف التى يمولها رموز النظام الفاسد أصبحت تتجاوز كل الحدود، فما معنى أن يكون مانشيت جريدة أسبوعية لثلاث أعداد متتالية: الرئيس الفاشى.. الرئيس الفاشل.. الرئيس المريض؟! وما معنى أن تنشر نفس الصحيفة بعد تولى الرئيس مرسى بأيام أن زوجته أنشأت 4 حمامات سباحة مغطاة؟!، هكذا فى خلال أيام أنشأت هذه المشاريع، وكأن معها خاتم سليمان أو مصباح علاء الدين، وما معنى أن تكتب صحيفة: الرئيس مرسى صلى الله عليه وسلم، وتضع ذات الصحيفة صورة الرئيس مرسى وبجواره بالخط العريض "زمن الكلاب"؟!، وما معنى أن تكتب صحيفة "الست أم أحمد تعمل مستشارا لرئيس الجمهورية"، وتكتب ذات الصحيفة: "مرسى يفرج عن مبارك مقابل 30 مليار جنيه"، وتكتب "لم ولادك يا مرسى"؟!، والصحيفة الأخيرة صاحبها شخص كان مندوب إعلانات عند مصطفى بكرى، ثم انقلب عليه لخلافهم على العمولة، وأصدر صحيفة كانت تطبع 5 آلاف نسخة كل أسبوع، الآن تطبع 60 ألف نسخة بالألوان بعدما دخل الملياردير الطائفى الشهير على الخط، واعتمدها ضمن مخططه الفاشل لإسقاط الرئيس، وتحولت الصحافة من "رسالة" إلى تجارة، ثم إلى سلاح مدمر. الصحفيون فى الصحف المستقلة التى يقوم عليها رجال أعمال الحزب الوطنى الفاسد المنحل ومثيرو الفتن الطائفية يتقاضون مرتبات فلكية، وبعضها يبدأ مرتب المحرر تحت التمرين فيها بخمسة آلاف جنيه، ومرتب رئيس القسم فيها يبدأ من عشرين ألف جنيه، ومرتب رئيس التحرير يتراوح بين 200 و 300 ألف جنيه شهريا، وهى مرتبات بعيدة كل البعد عن منظومة العمل الصحفى منذ بدأ، فكبار كتاب وصحفىّ مصر عاشوا عمرهم على الكفاف، ومازال هناك صحافيون وفى مؤسسات حكومية رواتبهم لا تزيد عن مرتب موظف حكومة درجة ثانية، فمن أين تأتى هذه الأموال؟ وما هدفها؟ إن هذه الصحف لا تقدم صحافة، بل وجدت لنشر الفوضى، وتشويه الحقائق، ويجد العاملون بها مقابلا ضخما، أما الصحف الجادة فيجاهد فيها المنتمون إليها مقابل مرتبات رمزية لا تكفى الحاجات الأساسية للصحفى بمفرده وبدون أسرته، ومع ذلك يواصلون، وجريدة "المصريون" خير مثال على ذلك، فهى تقدم صحافة جادة وبعيدة كل البعد عن التحزب والتحيز إلى أى تيار، ومرتبات كل صحفييها وموظفيها مجتمعون تقل عن مرتب مدير تحرير إحدى هذه الصحف، وتواجه صعوبات مالية تهدد استمرارها، ويقدم العاملون بها عملا جهاديا لا ينتظرون مقابلا عليه، مكتفين بإعجاب عشرات الألوف من القراء وثنائهم لما يقدموه من خدمة صحفية جادة، لا تهادن ولا توائم.. لا تزايد ولا تجامل، وتقدم خدمة صحفية جادة بعيدا عن الإثارة وإشعال الحرائق التى تحرق الوطن خدمة لأصحاب المصالح المشبوهة. الصحافة الجادة فى مصر باتت مهددة بالانقراض، أمام صحف الحيتان من الفلول والطائفيين الذين دخلوا ميدان الإعلام وبسطوا سطوتهم بفضائيات وصحف تنفق المليارات، فنحن فى "المصريون" مازلنا عاجزين عن توفير ما يساوى مليون دولار واحد لتأسيس "قناة المصريون الفضائية"، فى الوقت الذى خرجت للوجود خلال الأشهر الماضية عشرات القنوات، بميزانيات خرافية، لا تقل عن 200 مليون جنيه للقناة الواحدة، وفى الوقت الذى نعجز فيه عن تدبير مرتبات فريق "المصريون" الصحفى والإدارى، نجد هناك صحفا يتقاضى رئيس التحرير فيها أكثر من ثلاثة أضعاف مرتبات جميع فريق العمل فى "المصريون" سواء الصحفيين أو الإداريين أو الفنيين، وهذه مفارقات تذهل أصحاب العقول، وتشتت الفكر، وتجعلنا نؤمن بأنها من علامات الساعة حيث تنقلب الموازين. "المصريون" وغيرها من الصحف الجادة، تعيش محنة حقيقية، ففى الوقت الذى أصبحت الصحف العبثية تطبع عشرات الألوف بالألوان وهى التى كانت تطبع ما لا يزيد على خمسة آلاف، ويتقاضى محرروها أجور خرافية، تعجز جريدة مثل "المصريون" المنحازة للحق عن طباعة العدد الذى يوفى حاجات قرائها، ولو ذهبت تسأل عنها عند أى بائع صحف ستجد الكمية قد نفدت لقلة عدد المعروض، فى الوقت الذى تجد فيه صحف الفتنة أكواما لا ينظر إليها أحد وتعود كما نزلت لدى الباعة دون أن تقطع أربطتها!! وعود على بدء، فإن سوق الكتابة عامر، وبات خاضعا لآليات السوق، من عرض وطلب، وأن يجد الكاتب الملتزم "سوقا" له وسط هذه الزخم ليروج فيه بضاعته، التى هى كتابته، أمرا أصبح غير يسير، الكاتب الذى يحترم القارئ، الكاتب البعيد عن الهوى الشخصى، المؤمن بما يكتب، لن يجد له مكانا فى صحف البيزنس، والصحافة الجادة باتت تواجه خطر الانقراض، والرهان الآن على القارئ المحترم الذى ينتظر جريدته الجادة، فلو تجمع كل عشرة قراء يسكنون عمارة واحدة أو شارع واحد، ودفعوا مقدما قيمة اشتراك سنوى لجريدتنا الغالية (المصريون)، مقابل أن تصلهم الجريدة يوميا فى العنوان الذى يحددوه، سوف يقدم ذلك دعما كبيرا للجريدة، ويحميها من التوقف، فهل يقدم قراء "المصريون" على المبادرة لعمل اشتراكات سنوية فى جريدتنا الغالية لتبقى نافذتهم مفتوحة تقدم لهم خدمة صحفية حقيقية.. هذا هو أملنا. [email protected]