الموقف العاقل المتزن الذي وقفته الحكومة النيوزيلندية تجاه المذبحة التي تعرض لها المسلمون في بلادها تفسر لنا عملياً ما جاء به قرآننا من أن أهل الكتاب ليسوا سواءً ؛ فقد حرصت رئيسة وزراء نيوزيلندا ( جاسيندا أردرن ) على أن تكون مع أهالي الضحايا مواسيةً لهم ، ومخاطبةً إياهم بلغتهم، كما أنها وعدت بعدم ذكر اسم مرتكب الجريمة أبداً تحقيراً لشأنه ،كما قررت رفع أذان الجمعة ( اليوم 22 مارس ) في بلادها وإذاعته عبر الإذاعة والتليفزيون تضامناً مع المسلمين المقيمين في بلادها وطمأنةً لهم . وبرغم كل مشاعر الحزن والأسى التي لا بد أن يحس بها كل مسلم صادق تجاه استهداف المصلين الأبرياء ، فإنه لا بد لنا أن نشيد بمثل هذه المواقف النبيلة متمثلين مبدأ الإنصاف الذي جاء به قرآننا وأمرت به سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ،وأن نعلم أنه ليس كل المخالفين لنا في المعتقد على نفس الدرجة من الأمانة أو الخيانة كما قال تعالى : ( ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطارٍ يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينارٍ لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً )[ آل عمران : 75] . إنني أدعو كل منصف إلى المقارنة بين موقف رئيسة الوزراء النيوزيلندية ،والمواقف المتعصبة التي يقفها الرئيس الأمريكي ترامب ضد الإسلام والمسلمين ، فقد حرص منذ بداية ولايته على استفزاز المسلمين وإظهار الاستهانة بهم ،فهل ننسى أنه قد استهل رئاسته لأمريكا بإصدار قرار بمنع مواطني عدد من البلدان الإسلامية من دخول أمريكا . والعجيب هنا أن المحكمة الأمريكية العليا قد أيدت قرار ترامب هذا في يونيو 2018 ، بعد أن كانت المحاكم الأدنى درجة قد ألغت ذلك القرار الجائر ، وقد قيل في تعليل صدور هذا الحكم المؤيد لقرار ترامب : إن المحكمة العليا في أمريكا يهيمن عليها المحافظون المؤيدون لسياسات ترامب العنصرية . فأي عدالة عمياء تلك التي يتشدق بها الأمريكان ومَن يشيدون بديمقراطيتهم ؟!. إنني أجد نفسي هنا مدفوعاً دفعاً إلى استدعاء قضية العالم الجليل الشيخ عمر عبد الرحمن رحمه الله الذي قضى ربع قرن في سجون الأمريكان بتهم ظالمة لا أساس لها في الواقع ،ثم حُرم خلال سنوات سجنه الطويلة من أبسط ما يتمتع به سجين اعتاد الإجرام في أي بلد من بلدان ما يسمونه بالعالم الثالث ، فقد ظل الشيخ رحمه الله في سجن انفرادي طيلة تلك المدة ،لا يسمح له بصلاة الجماعة ولا بأن يقابل أحداً من المسجونين ،ولا أن يتكلم مع أحد منهم ، وهو كما نعلم شيخ ضرير يعاني من عدة أمراض منها السكر وارتفاع ضغط الدم ،ثم صاروا يُضيقون عليه في الزيارات حتى منعوها بالكلية ، بل وصل الأمر إلى حد أن واحداً من ضباط السجن قد اعتدى عليه جسدياً حيث أوقعه أرضاً وركله بقدميه وضربه على رأسه حتى شجه ،لا لشيء إلا لأنه سمع صوت الأذان ينبعث من ساعته ،كما ذكر الشيخ لبعض من زاره قبل منع الزيارة عنه أنهم يُدخلون عليه في زنزانته روائح كريهة وغازات ضارة تحدث له آلاماَ شديدة في جسده وتؤثر على ذاكرته ، حتى صار يقضي وقتاً طويلاً في محاولة سد منافذ الزنزانة وما تحت الباب من أجل منع وصول تلك الروائح إليه ،إلى غير ذلك من أنواع الإهانة والإيذاء . وهذا ما دفع أهله ومحبيه – وأنا واحد منهم- إلى مطالبة الحكومة الأمريكية -عبر محاميه - بنقله إلى بلد آخر ،حتى لو سُلِّم إلى مصر ، فقد كنت -ولا أزال - أرى أنه برغم كل شيء فإن معاملة الشيخ عمر في سجون مصر كانت أهون بكثير مما لقيه في سجون أبناء العم سام . وبالطبع فقد تجاهل الأمريكان تلك المطالب ولم يعبأوا بها . لكنهم حين أحسوا بدنو أجله بادروا بمحاولة التخلص منه قبل موته ، فإني أذكر أنه قد اتصل بي الشيخ أسد عمر عبد الرحمن في صبيحة اليوم الذي توفي فيه والده ،وأخبرني أن الأمريكان اتصلوا بهم عارضين عليهم أن يبحثوا عن بلد آخر ليُنقل الشيخ إليه ؛لأن حالته الصحية قد تدهورت بصورة ملحوظة ، وأذكر أني قلت يومها لأخي أسد : إنني أخشى أن يكون الموضوع أكبر من مجرد تدهور حالته الصحية ، وكنت أقصد أن يكون الشيخ قد مات بالفعل ، فقال : لا أدري ،ولكن هذا ما قالوه لنا . وما هي إلا بضع ساعات حتى اتصلوا مرة أخرى وأخبروهم بوفاته . والمقصود بيان أنه كما أننا لا ننسى مواقف هؤلاء المتعصبين ضد الإسلام والمسلمين ،فإن الإنصاف يقتصينا أيضا أن نُثمن مواقف أولئك المعتدلين المتسامحين من أمثال رئيسة وزراء نيوزيلندا ونقدرها حق قدرها . والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.