مهما يكن من أمر فإن الحقيقة السياسية الأولى تؤكد أن (حركة عدم الانحياز) فقدت معناها منذ أن سقط النظام العالمى الذى سيطر على الواقع الدولى منذ الحرب العالمية الثانية. مفهوم عدم الانحياز كان يؤشر على موقف محايد – لم يكن كذلك أبدًا – من صراع قطبين كبيرين سقط عمليا أحدهما. وربما يسقط الآخر قريبا، ولاسيما بعد عجزه الملحوظ عن تحمل مسئوليات الدولة الأكبر من الحدث السورى. ولعل الجديد بالنسبة للواقع الإقليمى –الشرق أوسطى- نشوء قطب محلى جديد يحاول أن يفرض نفوذه على دول الإقليم العربى، يمارس ذلك مع بعضها عن طريق شراء الولاء كما هو الحال فى دول المغارب العربية مصر وما يليها غربًا وجنوبًا، وبعضها عن طريق الإكراه الأدبى والمادى والثانى كما هو الحال فى اليمن والعراق ولبنان وسورية. فى سورية يستبيح (الولى الفقيه) ومشروعه وجنوده البنيان والإنسان كما استباحت خمس دول من حلف وارسو سنة 1968 بلاد التشيك ووأدت ربيع براغ. لتظل تشيكوسلوفاكيا محتلة حتى مطلع التسعينيات. وإن يكن الأمر هناك قد تم باستسلام الثورة التشيكية دون أن تحاول المقاومة، فلم يسقط إلا عشرات القتلى. كانت الثورة التشيكية يومها ثورة زعيم (دوبتشك) فانطفأت الثورة باعتقاله، وثورتنا اليوم ثورة شعب قرر الذهاب إلى النصر أو النصر. حين يصرح ( الولى الفقيه ) جهارًا ( أنه لن يسمح بسقوط بشار الأسد ) فإن ( لن ...) هذا تشير إلى خرق سافر لكل الأعراف السياسية والدبلوماسية. لأمر ما لم يتوقف مجلس الأمن عند هذا التصريح بما يستحق. ولم ير فيه عنوانًا لأشكال من التدخل فى الشأن السوري. إن الترجمة العملية لهذا التصريح تؤكد أن طهران تفرض نفسها كطرف أساسى فى الصراع. وحين تقدم إيران نفسها اليوم كقطب جديد تحت عنوان (مشروع المقاومة والممانعة) تسقط مباشرة مفهوم عدم الانحياز الذى تعزف على وتره هذه الأيام لتستضيف قمته. وحتى لو نحينا الموقف من الثورة السورية جانبًا فى إطار متابعتنا ( للقطب الإيرانى المحورى ) فإن تجاهل الحديث عن مشروع تصدير الثورة الإيرانية فى نسخته الجديدة، نسخة ما بعد الخمينى وما بعد حرب الثمانى سنوات على العراق العربى سيعتبر تهربًا من تحمل المسئولية الحقيقية تجاه مهددات الأمن القومى والقطرى العربى على المستويات: السياسية والثقافية والديمغرافية. لاتزال المجتمعات العربية تسمع يومًا بعد يوم تهديدات صريحة تصدر عن طهران وبغداد ودمشق وبيروت بتهديد أمن الآمنين، وزعزعة استقرار المستقرين (من بحر قزوين حتى خليج العرب) كما يقولون بل ويفعلون. تعتمد هذه التهديدات كما يعلم الجميع على تجنيد أتباع (الولى الفقيه) فى بنية مجتمعاتنا الآمنة المطمئنة. والجزء المكمل للمشروع أن البلهاء والأغبياء فى صفوفنا ما زالوا يرون فى الثورة الإيرانية معلمًا وملهمًا. ويسمحون للولى الفقيه أن يدق مسامير (ديمغرافية) أو مستعمرات سكانية فى بنية المجتمعات المتجانسة لتكون هذه المجاميع مهما بدت محدودة مسامير جحا المستقبلية المعينة على أن تصل ذراع الأخطبوط إلى حيث يريد. بعد أيام سيُهرع العديد من القادة إلى طهران للمشاركة فى قمة عدم الانحياز... بعضهم سيذهب رغبًا حيث تلعب شيكات البترو – يورو الإيرانى دورها فى شراء كل رخيص، واستتباعه واستدرار – لا در درهم – ما يثير النشوة الإيرانية من مديح زائف تعود على تقديمه الملقون (جمع ملق من الملق). وبعضهم سيذهب رهبًا اتقاء لشر لا يد لهم فى اتقائه.. حالة تذكرك بالحديث الشريف (إن شر الناس من تركه الناس اتقاء شره). ولكن إذا كان قادة الدول بما يمثلونه من معاقد السيادة والحفاظ يضطرون إلى المداراة والمناورة خوفا وذعرا؛ فماذا يفعل آحاد الناس الذين يسامون أشكال الترغيب والترهيب فى العراق ولبنان واليمن والشام حيث ينشب الوحش مخالبه. بالعودة إلى موقف الشعب السورى فإن السوريين لا يستطيعون أن يفصلوا الموقف من قمة طهران عن الموقف من ثورتهم ومن معاناتهم. وكما تعتبر بعض الدول والجماعات والحركات أن من حقها أن تصوغ علاقتها مع إيران بما يخدم مصالحها؛ فإن الشعب السورى يحتفظ لنفسه بالحق نفسه، ليرى فى مشاركة من يشارك فى قمة طهران، وفى الجلوس مع الجزارَين الإيرانى والسورى على طاولة واحدة شراكة فعلية فى جريمة ذبح أطفال سورية وتهديم بنيانها. ثوب الربيع العربى كان أبيض ناصعًا تساءل إلياس أبو شبكة يومًا ثوب الزفاف كان أبيض ناصعًا فمن أين جاءت هذه البقعة الحمراء؟! يا لها من بقعة حمراء بل سوداء على جبينهم....