توالت الأحداث الصادمة فى فرنسا منذ أسبوعين، بصورة صاعقة مباغتة، ولم يكن فى حسبان أكثر المراقبين تشاؤمًا أن يرى حرب شوارع فعلية فى باريس، و تخريبًا للبنايات والعمائر والمرافق، وقطعًا للطرق، وأرتالاً عسكرية أو مدرعات تجوب الشوارع، حيث قامت السلطات الفرنسية بنشر تسعة و ثمانين ألف شرطى وعربات مدرعة سدت بعض الضواحى و الميادين! وليست المفاجأة أن نطالع مثل هذه الهبات الشعبية، بسبب الغلاء المعيشى وارتفاع أسعار الوقود، وهى الهبات التى اعتدنا رؤيتها فى "العالم الثالث"، حيث يمضى منحنى سياسات الإفقار والتجويع على طريقة الارتجال و فتح المندل، دون تخطيط أو سقوف أو ضوابط أو توقع لخطوات مستقبلية أو "دون ضمير" فى بعض الأحيان ! ولكن المفاجأة بروز الهبة الشعبية المذهلة _ ذات الطابع الاجتماعى "غير المسيس" ! _ من قلب نموذج رأسمالى / ديمقراطى، يرتقى صدارة المشهد الأوروبى و العالمى، ويشكل وجه العالم فعليًا!. تتواصل المظاهرات الشعبية فى فرنسا، للأسبوع الثالث على التوالى، ويعترف رئيس وزراء فرنسا " إدوار فيليب " بأن ما يراه فى ضواحى باريس، لم يحدث أبدًا من قبل، منذ انفجار أعمال الشغب التى شهدتها فرنسا عام 2005 وعلى رغم التنازلات الكبيرة التى قدمها الرئيس "إيمانويل ماكرون " _ دون أى تفلسف أو تحد لإرادة الشعب الفرنسى _ ويقف فى طليعة هذه التنازلات بطبيعة الحال "تعليق الضرائب " و "التراجع عن زيادات الوقود"، فإن الغضب الشعبى المتراكم لم يهدأ، ومسلك التصعيد لم يتراجع قيد شعرة أو سنتيمتر واحد إلى الوراء ! وهو ما يدعو إلى التأمل، وطرح السؤال: هل آن لمخزون الغضب المتراكم المكبوت، كبرميل البارود، منذ فترة طويلة داخل الأوساط الشعبية الأوروبية أن ينفجر، ويتحرر لهيبًا لافحًا مخيفًا، يحرق رأس المال السياسى المتسلط ، ويلزم حيتان البيزنس المتربحين من معاناة البسطاء، بإيقاف الانتهازية والابتزاز والنهب المنظم ؟! قبل أسبوعين كنت فى مداخلة تليفونية على الهواء مباشرة مع فضائية ( ANN) فى برنامج اقتصادى، يتناول انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، وتصاعد المد اليمينى فى أوروبا، وتحدثت علنًا عن معاناة " اقتصادية" فى بعض الأوساط الشعبية فى أوروبا، واحتمالية انفجار "قلاقل اجتماعية" تغير عجلة السياسة الأوروبية تمامًا فى تشابكاتها مع الوضعية الاقتصادية، وسمعت ضحكة المذيع الساخرة، وكأنه يقول لى: "هل تظن أوروبا كبعض أوطان العالم الثالث وجمهوريات الموز؟!" ولا أردى تعليق هذا المذيع وانطباعه الآن، وهو يرى" الدراما الحية "الجديدة فى فرنسا، وهى تخترق كل سقوف التوقع، وتقلب كل الطاولات، وتتحدى كل الحسابات التقليدية، وترفع عقيرة المهمشين والفقراء بصوت الرفض التاريخى الملحمى، الذى كان لابد أن يرتفع بمنطق العدالة التاريخية، وسننها الغالبة التى لا تتخلف؟!. والمدهش فى أمر "احتجاجات السترات الصفراء " فى فرنسا وقد تعاطف معها العالم كله أنها تمضى فى طريقها، تصعيدا ، غير آبهة بتنازلات الطرف الآخر، أو غير ملتفتة لأية تحذيرات، رغم استجابة سبع نقابات، كما فهمنا من الأخبار، لنداءات التهدئة! ولكن محتوى الاحتجاجات يتسع، فهى تتنامى رأسيًا وأفقيًا، بعد انضمام "النقابة الزراعية " و "المدارس الثانوية" ( و لنلاحظ هنا نوع المشاركة من الجيل الصاعد ممثلاً فى طلاب المدراس ورموز الجيل الشبابى الجديد ). ومع اتساع رقعة التحدى الشعبى والمواجهة العنيدة التى ترفع سقف مطالبها تدريجيًا إلى حد المطالبة المعلنة باستقالة "ماكرون" ، يضطر وزير داخلية فرنسا "كريستوف كاستانير" إلى نشر تعزيزات إضافية من خمسة وستين ألف شرطى درك! و من يصدق أن تتحول ضواحى "باريس" و "بوردو" والحواضر الكبيرة إلى "ساحة معارك" شاملة، أسفرت حتى لحظة كتابة هذه السطور عن مائة وخمسين مصابًا، وأربعمائة وخمسين محتجزًا، ولا تزال ثمة توقعات غالبة بالتصعيد ؟! و تتلاحق أنفاس العالم مع تنامى الشريط الدرامى المذهل، حيث يجرى إغلاق بعض المطاعم والمتاحف _ وإغلاق برج "إيفيل" نفسه ! _ ، ويطالب "لوران فوكييه" بإجراء استفتاء حول سياسة "ماكرون" بتمامها، كما يطالب القطب اليسارى البارز "أوليفييه فور" بتشكيل لجان ل "تدارس القدرة الشرائية للناس"، وإمكانية فرض ضرائب على " أصحاب الثروات " لا "البسطاء و ملح الأرض"!. و لقد تذكرت ما أبديته مرارًا، من تأكيد بأن محتوى الفعل الثورى القادم فى العالم كله ، فى الفترة القادمة، سيكون "اجتماعيًا" بالضرورة بعيدًا عن الإيديولوجيا والتحزب والمطالب السياسية المتعارف عليها ، وخصوصًا مع مضى القاطرة الإنسانية، بشق بشع و مخجل بين " الأغنياء " و " الفقراء " ، و مع ملل الجميع و استيائهم من ثرثرة السياسة وتقعرها وبلاغتها العقيم التى تكتفى باستعراض المهارات بعيدًا عن وجدان الناس و أشواقهم!. و عدت إلى مكتبتى على الفور، و تناولت من أرففها كتابًا، طالما طالبت بترجمته إلى العربية، للمفكر " سى . ر . هينزمان" C. R. Hensman " و عنوانه : "الغنى فى مواجهة الفقير " " Rich against poor " ( ويقع فى نحو 287 صفحة) ، حيث أقام المؤلف فكرة الكتاب على تنبؤات وزير الدفاع الأمريكى السابق" روبرت ماكنمارا" ، وهى التنبؤات الذاهبة إلى أن التطرف و العنف العالمى فى الفترة القادمة، لن يرتبطا ب "الفكر الدينى أو السياسى أو الإيديولوجى" ، بل ب "الجوع و الفقر" وما سينتجانه من عنف رهيب، سيهدد " الدول الغنية " فى الصميم ، لا " الدول الفقيرة " وحدها ، وهى رؤية نجح "ماكنمارا " فى إقناع " البنك الدولى " بخطورتها و جدواها ! و مع اتساع رقعة النقص فى الغذاء و الفرص السكنية المعقولة و الخدمات الطبية الملائمة ، سيتم حرث الأرض ، بقوة ، لميلاد نوع متهوس أعمى من العنف المجنون ، الذى سيكون فى صدارة أهدافه إسكات صفير البطون ، أو مجرد البقاء على قيد الحياة بأى ثمن ! و جهر " هينزمان " فى مقدمة كتابه بما أسماه : " الإمكانيات الثورية " الكامنة " Revolutionary potentialit"، لدى الشعوب الجائعة!. ويؤكد "هينزمان " _ فى كتابه _ أن تحسين ظروف العمل و الحياة، كان هدفًا معلنًا لكل الثائرين، من " غاندى " إلى "جيفارا" إلى "يات صن"، ويخصص المؤلف فصلًا مهمًا حول ما يسميه ب " النمو السريع " Rapid development، مؤكدًا أن هذا النمو السريع، لن يتحقق دون تحسين جذرى فى "الشروط و الأوضاع الثقافية والسياسية" . و يؤكد المؤلف أن بعض الساسة و صناع القرار فى العالم، من حيث يدرون أو لا يدرون، يباشرون ما أسماه ب " العملية المضادة للتنمية " Anti -development ، ويشير المؤلف إلى أن بعض الطبقات الاقتصادية القادرة أو الطفيلية أو بعض النخب الحاكمة، تنسى فى عملية حشو البطون بالمكاسب والفوائض، الأبعاد الإنسانية التى يتأثر بها المهمشون والفقراء، فهم ( أى الفقراء) لا يبحثون عن مجرد " الوجود " ، بل " شعارهم " الوجود ذو المعنى " Meaningful existence . و لا ينسى المؤلف بأن يبرق برسالة خطيرة لكل صناع القرار فى العالم ، بأن الضمير الجماهيرى الذكى ، المتسم بالدهاء يستطيع جيدًا التفرقة بين " الواقع " الميدانى _ اقتصاديًا ومعيشيًا Reality وبين " البلاغة اللفظية " Rhetoric التى لا تقدم أو تؤخر، بل تكتفى بدغدغة مشاعر الفقراء، وكسب الوقت دون جدوى أو مردود. و مازال فى فصول التقوية الفعالة، التى فتحتها "باريس" فى الأيام الماضية، مزيد من الدروس و الدلالات الخطيرة . و للحديث بقية.