ربما ستعرف الجمهورية الثانية عما قريب الدستور الجديد بعد إغواء مخاض عسير وطويل بات مؤجلاً إما بسبب رفض القوى والنخب السياسية المشاركة في إعداده وصياغته والاختلاف على مواد به ، أو لأننا اعتدنا أن نجد الدستور مكتوباً ومعمولاً به بجوار وسادة نومنا عندما نستيقظ ، أو لأننا باختصار وعلى استحياء أمامنا طريق طويل جداً لممارسة قواعد الديموقراطية ، وأن المنطق الذي نتعامل به من رهاننا السياسي هو منطق الهواة وليس المحترفين. هذا باختزال ما تمخضت عنه المناقشات الأولية للجنة التأسيسية لصياغة دستور مصر ، فلقد فاجأتنا اللجنة بحديث عن الصحافة وعن حرية الصحافة وعدم جواز حبس الصحفيين في جرائم النشر ، وضرورة إطلاق العنان للصحفي والإعلامي بوجه عام في عرض قضيته المروعة ما دامت لم تمس الحياة الشخصية للغير . وهذا الكلام طيب ولكنني حينما طالعته في الصحف وشاهدته عبر الفضائيات كنت أظن أنه يتعلق بدولة جنوب السودان ، أو كشمير والخمير الحمر وربما كمبوديا ، وليس مصر ،فالمستقرئ لدساتير مصر يدرك مادة خالدة بطولها وعرضها وهي المادة الخاصة بالصحافة ، فدستور 1923أقر في مادة الخامسة عشرة بأن (الصحافة حرة في حدود القانون والرقابة على الصحف محظورة وإنذار الصحف أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإداري محظور كذلك إلا إذا كان ذلك ضرورياً لوقاية النظام الاجتماعي) . والجملة الأخيرة المتعلقة بضرورة وقاية النظام الاجتماعي أسهب في عرضها واستقراء كنهها الصحفي الأستاذ صلاح عيسى ووضح كيف كانت هذه العبارة ثغرة سمحت للنظم السياسية المتعاقبة تعطيل حرية الصحافة بل وقمعها إن سنحت الظروف وتهيأت لذلك.وأيضاً جاءت نفس المادة بنصها في دستور سنة 1930 وكأن النظام السياسي كان يعتبر أن الصحافة بحق مهنة محرمة تهوي بصاحبها إلى الفجور والرذيلة وهي ليست كذلك بالقطع إلا أن النظم السياسية الحاكمة آنذاك كانت تتذرع بحجة وقاية المجتمع من نشر أخبار وقصص ومعلومات قد تضر باستقرارها هي أولاً.ثم جاءت ثورة يوليو هي تعلم تمام العلم قدرة وقوة الصحافة في توجيه المسار السياسي والاجتماعي ، فكانت أكثر مصالحة في إعلانها الدستوري الأول لعام 1954، فأقرت (بحرية الصحافة وأن الطباعة مكفولة ، ولا يجوز تقييد إصدار الصحف والمطبوعات بترخيص ولا فرض رقابة عليها) ، ولضرورة المشهد السياسي بعد ذلك رأت حكومة الثورة ضرورة غلق بعض الصحف وحظر المطبوعات التي شملت الصحف والكتب أيضاً . ثم جاء بعد ذلك دستور الدولة المصرية المؤرخ بتاريخ 1956 ليوجه فوهة مسدسه نحو حرية الصحافة بصورة متوارية مستترة فوجدنا المادة الخامسة والأربعين تقر( بحرية الصحافة والطباعة والنشر مكفولة وفقاً لمصالح المجتمع وفي حدود القانون )، وبالقطع مصالح المجتمع هي مصالح النظام الحاكم وحدود القانون هو ما استطاع نظام عبد الناصر أن يتحكم في مواده وفي رجال القانون أيضاً ، فبات الصحفي مطارداً حيناً ، وموالياً للسلطة أحيانا أخرى خشية بطش النظام السياسي الذي اعتاد احتراف قنص وصيد رجال الصحافة والفكر. أما دستور سنة 1964 فلقد جاء بسطر واحد اختزل فيه مهنة الصحافة حينما أقر الدستور بأن (حرية الصحافة والطباعة والنشر مكفولة في حدود القانون )، دون إضافة أية عبارات أخرى بشأن الحظر أو القرارات الإدارية أو مصالح الشعب لأن نظام عبد الناصر قد نجح بالفعل في تقليم أيادي الصحفيين وأصبح من يمتهن مهنة الصحافة يتحسس مسدسه كلما طرق بابه حفنة من العسكر ليلاً وأحياناً نهاراً ، ورغم ذلك ظل الصحفي والصحافة هي وجه مصر المشرق الذي لا يهاب القمع والبطش والاستبداد. ولعل هلع رجال عبد الناصر ونظامه السياسي من الصحفيين والكتاب ورجال الفكر والرأي وانشغالهم بما يعرضونه من آراء ومن ثم ترك الجانب الخارجي للبلاد هو ما عرض مصر ونظام عبد الناصر تحديدا لكارثة عسكرية أطلق عليها المحللون والواصفون ورجال السياسة اسم النكسة، وهي بحق نكسة عسكرية واكبتها نكسة في تقييد حرية الصحافة والرأي مما أسهم في خلق حالات من اللاوعي بخطورة وفداحة الأمر الداخلي في مصر بسبب ممارسات نظام عبد الناصر على وسائط الإعلام. ووصولاً لدستور عام 1971 الذي اختط للصحافة خارصة طريق لها ومنح المهنة عدة سطور في مواده وهو على يقين بأن الصحافة منذ هزيمة القوى العربية على يد الكيان الصهيوني أصبحت بحق صوت الأمة وضميرها ولم تكن الصحافة منذ ذلك العهد سوى الجندي اليقظ الذي يعمل ساهراً على تبصير وطنه بحقائقه ومشكلاته ومن ثم إيجاد حلول لها . فنجد المادة الثامنة والأربعين من هذا الدستور تقر (بحرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام مكفولة ، والرقابة على الصحف محظورة وإنذارها أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإداري محظور ، ويجوز استثناء في حالة إعلان الطوارئ أو زمن الحرب أن يفرض على الصحف والمطبوعات ووسائل الإعلام رقابة محددة في الأمور التي تتصل بالسلامة العامة أو أغراض الأمن القومي ، وذلك كله وفقاً للقانون) . والصحافة في ضوء دستور 1971 كانت بمثابة عصا موسى في يد نظام السادات حتى قبيل اغتياله بساعات محدودة ، فهي المرة الأولى التي نرى فيها كلمة الطوارئ مقرونة بالصحافة ، ونجد لفظة استثناء التي أمكنت للسادات ونظامه التحكم في سياسات النشر والطباعة بما يروق لهم ولنظامهم السياسي الداخلي والخارجي ، والمتأمل في مادة الدستور تلك يجد اقتران الصحافة كمهمة قومية وواجب وطني مخلص بقضية الأمن القومي ، وهي الذريعة التي تمكن لأي نظام سياسي حاكم في أن يوجه بوصلة الصحافة والصحفيين ، وتجدر الإشارة بأن الزعيم الراحل أنور السادات قد ورث عن سابقه الرئيس عبد الناصر هوس الاهتمام بالصحافة والصحفيين ، وكم هو شاق أن تكون مهنة كضوء الشمس مثل الصحافة تحت مجهر النظام الحاكم بل تحت اهتمام أعلى سلطة في البلاد. ولا سبيل للحديث عن الصحافة في تعديلات دستور 1971 والتي أقرها الرئيس السابق حسني مبارك حيث إنه لم يعد كمن سبقه مهتماً بالرأي ورجاله وأنه اعتمد في تقاريره على أهل الثقة ، والمرات القليلة التي بدا فيها مهموماً بشأن الصحفيين تمثلت إما في إصدار عفو عام على صحفي في جرائم نشر وكأن الصحفي مجرم عتيد الإجرام يستحق العفو الرئاسي ، أو حينما كان يلتقي بالصحفيين والكتاب في حفلات معرض القاهرة الدولي للكتاب وهو غير منصت أو مهتم بما يتم طرحه من مشكلات. واليوم ومصر بصدد تدشين دستور جديد لا أرى له وغيري أيضاً البقاء والاستمرارية لا لعطب في مواده فحسب ، بل لأن الشعب المصري وهو يتخلص من نظامه السياسي السابق تخلص أيضاً من أي قيد أو قانون يفرض عليه وهو غير مشارك فيه من الأساس . هذا الدستور وواضعوه عليهم أن ينتبهواً كثيراً وليس قدراً ضئيلاً بأهمية الصحافة في الترويج لهذا الدستور واعتماد مواده ، لأن فكرة إلزام وطن كامل بدستور جديد لابد وأن تقدم بصورة أكثر ديموقراطية ، وهذه طريق الصحافة ، وإذا كانت الصحافة هي سبيل واضعي الدستور للشعب ، فمن باب أولى ألا يتم اختصار المهنة ورجالها في حدود سطور عامة غير مقننة وغير محددة يمكن تقليصها وفرض محظورات عليها . فالصحفي ليس بحاجة إلى حرية يمارسها بل يحتاج إلى فضاء ومناخ حر بطبيعته ، وليس في حاجة إلى من يضمن حقه في عدم الحبس أو القبض عليه وهو يمارس عمله الوطني لأنه باختصار يبحث عن الحقيقة حتى ولو كانت في غياهب السجون وكم من صحفي استطاع سبر حقائق سياسية مهمة وهو نزيل أحد العنابر والزنازين . إن مشكلة الصحافة أكبر بكثير من منحة رئاسية أو دستورية تقدم إليه من باب اتباع سياسة العصا والجزرة ، هو بحق في أمس الحاجة لأن يشارك في صنع القرار السياسي لاسيما وأن الصحافة المصرية تضم قامات فكرية وأصحاب رأي يشهد التاريخ لهم برجاحة العقل والفكر والرأي. وقد يظن النظام السياسي على سبيل الخطأ والظن السئ بأن الصحفي بحاجة إلى منحة أو مجرد علاوة فكرية عن طريق حرية التعبير فيما يكتبه ، لأن الأسوأ ألا يجد هذا الصحفي عيناً تراه وأذناً تسمعه فكأنما يحرث في البحر. وجملة السطور السابقة يمكن اختزالها بأن حالة اللغط المستدامة والتعثر المستمر في ولادة دستور الجمهورية الثانية سببها الصحافة أيضاً ، لأنه لولا صحافة مصر لما عرف المواطن بعض حقوقه الدستورية ، ولما فطن لبعض مصطلحات المشهد السياسي الجديد كائتلاف وتنظيم وجمعية وجماعة وفصيل سياسي ، وغير ذلك . علاوة على أن الصحافة نجحت بامتياز منذ شرارة الثورة المصرية في يناير بأن تقوم بدور المشرِّع غير الرسمي لهذا الوطن. ولا أبالغ القول بأن الصحافة أسهمت بصورة مقصودة في تحريك الدعاوى القضائية حبيسة أروقة المحاكم ، وأنه لولا مانشيتات بعض الصحف لما رأينا رموز النظام السابق قابعين خلف الأسوار ، بل ربما سيدين النظام السياسي الحالي للصحافة بدين كبير بعد أن تستقر أوضاع مصر وتهدأ رياحها العاتية. وإذا كانت هناك ثمة تصريحات ظهرت في مطلع هذا الأسبوع بشأن سحب تراخيص الفضائيات لأن من يعمل بالفضائيات الآن هم الصحفيون أنفسهم وهذا جعلهم يطوقون القارئ والمشاهد والنظام السياسي بالقلم والصورة ، وربما هذا إشعار مستقبلي بإجراءات قد تتخذ بشأن صاحبة الجلالة.