في أسلوب عملي كنت متشددا تجاه المصادر المجهلة. وكثيرا ما ضحيت بأخبار غاية في الأهمية بسبب ذلك. أمام نهج وسائل الإعلام الأمريكية مؤخرا تجاه دونالد ترامب بدأت أغير وجهة نظري وأميل إلى أن المصادر المجهلة ضرورية مع يقين الكاتب أو الصحفي من صدق معلوماته ومصادره. أقول وأؤكد على كلمة "اليقين" وليس مجرد أخبار تحتمل الكذب. الصحفي المخضرم والماهر جدا في الصحافة الاستقصائية بوب وودورد الذي فجر الفضيحة السياسية الأكبر في تاريخ أمريكا "ووترجيت" بمعاونة زميله كارل برنستين والتي أدت إلى استقالة الرئيس نيكسون في أغسطس 1974. أثار القضية في الصحيفة نفسها التي يعمل فيها الآن والتي نشرت مقتطفات من كتابه الحديث "الخوف" متناولا ما يدور في البيت الأبيض في ظل رئاسة ترامب. فضيحة ووترجيت تتعلق بالتجسس على المكالمات الهاتفية للحزب الديمقراطي بأجهزة تنصت زرعت في المبنى الذي يحمل هذا الاسم "ووترجيت". استخدم الصحفيان مصدرا مجهلا باسم "ديب ثروت" أخذا منه المعلومات التي قاما بنشرها. في 2005 تم الكشف عن ديب ثروت وهو نائب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي مارك وليام فلت. في النهاية هناك مصدر جرى تجهيله مؤقتا لأسباب ضرورية، لكنه مصدر معلوم للصحفي وللصحيفة العريقة التي تتمتع بمصداقية عالية جدا ولا يمكنها أن تجازف بها، كما أنها تختبر صدقية المعلومات اختبارا قاسيا للتأكد من سلامتها. نقلق عندنا في العالم العربي من تبني المصادر المجهلة بسبب غياب الحريات وانتهاك الحماية القانونية والدستورية، وقلة خبرة الصحفيين ووعيهم بأهمية المصدر ودرجة الوثوق فيه. وقد يجري إعاقة الصحيفة عن الاستمرار في النشر وربما توقيف الصحفي إن لم يكشف مصادره التي ستتعرض حتما للاعتقال. الصحيفة العريقة الأخرى "نيويورك تايمز" أثارت ضجة مؤخرا بنشرها مقالا مجهول اسم كاتبه. بسبب اليقين بأنها لا تكذب ولا تضحي إطلاقا بمصداقيتها، سارع رؤوس السلطة الأمريكية إلى نفي مسئولية كل منهم عن كتابة المقال. تحت عنوان "انا جزء من المقاومة داخل إدارة ترامب" روى كاتب المقال كيف يعمل جاهدا مع آخرين للتصدي من الداخل لأسوأ شطحات رئيس يتمتع بقدرات قيادية وضيعة ومتهورة وغير فعالة. على الفور دعا ترامب الصحيفة إلى كشف كاتب المقال. فوضى عارمة حول اسمه عمت دوائر صناعة القرار في واشنطن. هل ينتمي للجناح الغربي في البيت الأبيض المقرب جدا من الرئيس أم يعمل في وزارة؟!. على طريقة "حادي بادي" أصدر مكتب مايك بنس نائب الرئيس بيانا يبرؤه من كتابة المقال وأنه يوقع المقالات التي يكتبها. لم يتهمه أحد إلا أن التكهنات حامت على أسماء كثيرة، ولم يقترب تكهن واحد من إمكانية أن يكون المقال مفبركا. رئيس الاستخبارات الوطنية دان كوتس نفى أيضا أن يكون هو أو مساعده كتب المقال. وسار على نهجه وزير الخارجية مايك بومبيو ووزير الدفاع جيم ماتيس. السيناتور السيدة اليزابيث وارن علقت بأنه حان الوقت لتفعيل التعديل الدستوري ال25 لازاحة ترامب عن الحكم والذي وضع عام 1967 وتسمح لنائب الرئيس والمسؤولين من حوله بالكتابة إلى الكونجرس لإعفاء الرئيس من منصبه إذا رأوا عدم قدرته على ممارسة مهام منصبه. في كتابه "الخوف" الذي سيصدر يوم 11 سبتمبر لم يكشف وودورد عن مصادره التي استقى منها معلومات أذهبت النوم عن ترامب وجعلته يهزي كمن أصابه الخرف. الصحافة الأمريكية تتمتع ببيئة قانونية ودستورية مثالية تجعلها لا تطبل للسلطة وتمارس عملها بحرية ومتعة ومهارة وحرفية عالية لذلك يصدقها الجميع. [email protected]