كنا قد أشرنا في المقال السابق إلي توطئة لهذه الشبهات،تحت عنوان (لا تسمعوا لهذه السنة)،أوضحنا من خلالها الهدف من إعلان هذه الحرب علي سنة النبي محمد،ماهي السنة التي أعلن الأعداء الحرب عليها؟،من الذي يتولي كبر هذه الحرب؟،كيف يهاجمون السنة؟،وأخيراً أشرنا إلي أهم الأسباب التي ساعدت علي إذكاء هذه الحرب الضروس.واليوم نستكمل اللقاء في الكشف عن شبهات هؤلاء الناقمين علي السنة،لنبصر الناس بها وبحقيقتها،فيزداد الذين آمنوا إيماناً،ولا يرتاب الذين في قلوبهم مرض من الشك.ولكثرة هذه الشبهات فسنتناولها في مقالات عدة، ذِكراً لها ورداً عليها،وما أنا في ذلك ببالغ الكمال في السرد والرد،وإنما حظي في ذلك حظ الجندي الذي يقف علي ثغرة من حدود الاسلام،يحاول الذب عنها بكل ما تعلم ويتعلم،بحسبان ذلك من صميم الأمانة التي حُمِلنا شرفها،وما توفيقي إلا بالله. أنواع شبهات المضللين حول السنة: إن من يحاول التنقيب عن شبهات أعداء السنة،يجد نفسه أمام ثلاثة أنواع من أصحاب هذه الشبهات،وهم: النوع الأول_ويثير أصحابه العديد من الشبهات بهدف التشكيك في صحة الحديث نفسه،عن طريق التشكيك في صحة نسبته إلي رسول الله محمد،صلي الله عليه وسلم،فيدعون أن الحديث غير صحيح،لأنه ليس من كلام رسول الله،وشُبهتُهم في ذلك،ندرة الأحاديث الصحيحة الواردة في صحيح البخاري،وقلة الاحتكام إلي السنة عند الإمام أبي حنيفة!.النوع الثاني_ويثير أصحابه العديد من الشبهات بهدف إنكار السنة كلية، ومحوها من الأساس،كشبهة الادعاء بأن النبي صلي الله عليه وسلم نهي عن كتابة السنة،وشبهة الادعاء بأن القرآن الكريم قد نهي عن الايمان بالسنة أو العمل بها!.أما النوع الثالث والأخير_فيثير أصحابه الشبهات حول السنة بهدف عزل السنة عن المجتمع،وعن حياة الناس،حتي علي فرض أن ماجاءنا من الأحاديث صحيحاً،وأنه من كلام رسول الله محمد بن عبد الله،وحجتهم وشبهتهم في ذلك هي أن القرآن وحده فيه بيان لكل الأحكام،وليس للناس حاجة إلي السنة لتبين لهم من أمر الأحكام شيئاً،وبالتالي فهم ينكرون أصلاً كون السنة مصدر من مصادر تشريع الأحكام،التي يلجأ إليها المفتي أو المجتهد عندما يضيق به المقام فلم يستطع الوصول إلي حكم المسألة في القرآن الكريم!. الشبهات والرد عليها: الشبهة الأولي:الادعاء بأن سول الله نهي عن كتابة السنة فهم يقولون أن رسول الله محمد قد نهي عن كتابة أحاديثه التي قالها،وعن رواية أفعاله التي قام بها.وقد استدلوا علي كلامهم هذا بحديث ورد في صحيح الإمام مسلم،عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني، ولا حرج، ومن كذب علي - قال همام: أحسبه قال - متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "وبمفهوم المخالفة هم يقولون:(إن السنة لو كانت من أصول الدين لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابتها وجمعها في صحف،كما كان يصنع مع القرآن حين ينزل، حيث كان يأمر كتبه الوحي بكتابة ما ينزل عليه أولاً فأولاً، أما وأنه قد نهى عن كتابتها، فهذا دليل على أنها ليست من الدين في شيء،إذمن المحال أن تكون السنة من الدين وينهى النبي عن كتابتها، بل ويأمر بمحو ما كتب منها) الرد علي الشبهة: يمكن الرد علي هذه الشبهة،علي نحو ما تعلمناه،وعلي نحو ما أرشد إليه السابقون والمعاصرون من علمائناعلي النحو الآتي: إن الحديث الذي تمسك به هؤلاء،والذي ينهي عن كتابة السنة،ليس هو الحديث الأوحد في مجال كتابتها أو الاحتجاج بهامن عدمه حتي يمكن التسليم به،بل إن هناك أكثر من حديث آخر،وغير واقعة أيضاً، كلها أذنت وسمحت بكتابة الحديث عن رسول الله،ومن هذه الأحاديث،وتلك الوقائع السنية مايلي: أ_ مارواه الإمام البخاري عن وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَخِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ». ب_مارواه الشيخان (البخاري ومسلم) عن أبي سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُفْدَى وَإِمَّا أَنْ يُقِيدَ» ، فَقَالَ العَبَّاسُ: إِلَّا الإِذْخِرَ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا الإِذْخِرَ» فَقَامَ أَبُو شَاهٍ (رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ )،فَقَالَ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ» ، قُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: مَا قَوْلُهُ اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هَذِهِ الخُطْبَةَ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ج_حديث صحيفة علي رضي الله عنه،والذي مفاده مارواه الامام البخاري عن الشَّعْبِيَّ،قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا لَيْسَ فِي القُرْآنِ؟، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مَرَّةً: مَا لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: «وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا عِنْدَنَا إِلَّا مَا فِي القُرْآنِ إِلَّا فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِي كِتَابِهِ، وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ» قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: «العَقْلُ، وَفِكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لاَ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ». د_الرسائل التي كان يكتبها رسول الله محمد،صلي الله عليه وسلم،من خلال كتابه،والتي كان يرسلها إلي الشعوب والقبائل في كل أنحاء الأرض،يوضح لهم فيها دعوته،وأسسها،ويدعوهم إلي الإيمان بها،وعدم الصد عن نشرها إن هم لم يؤمنوا بها،والتي حاول جمعها المرحوم محمد حميد الله الحيدر آبادي الهندي،في مؤلف بعنوان: (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة)،والتي تدل جميعها دلالة قاطعة علي الإذن بكتابة سنة رسول الله. ه_ الرسائل التي كان يكتبها رسول الله صلي الله عليه وسلم لولاته وعماله في الأمصار المختلفة،يبين لهم فيها أحكام الصدقات (الزكاة) والديات والفرائض (المواريث) وبعض السنن، هذه الوقائع والآثار تدل دلالة قاطعة على أن النبي كان قد أذن في كتابة أحاديثه للعمل بها في حياة المسلمين. وليزود عماله وولاته بما يعينهم على أداء مهماتهم في إدارة الأمور على هدى من كتاب الله وسنة رسوله الكريم. من خلال البيان السابق يتضح لنا أمراً هاماً وهو أننا الآن وجدنا أنفسنا أمام أمرين متعارضين،الأول وهو الحديث الوحيد الذي نهي فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم عن كتابة سنته الشريفه،حتي وإن كان حديثاًواحداً،أما الأمر الآخر فهو ذلك العدد من الأحاديث الذي أذن فيها رسول الله بكتابة سنته النبوية،بل وأمر بها،إذاً من الطبيعي جداً أن يسأل الناس عن الحل،وعن كيفية فك شفرة هذا التعارض لرفعه،حتي تهدأ الوجدان من ثورة هذه الشبهة،هذا ما سيكون محل لقائنا في المقال القادم إن شاء الله.