فى نهاية ديسمبر من العام الماضى كانت هناك العديد من الحوارات والندوات التى نظمت فى ليبيا وفى بعض الأقطار العربية، خاصة القنوات الفضائية، والحديث فيها كان مركزًا حول التجربة الديمقراطية فى ليبيا والاستحقاق الانتخابى، وأن الليبيين والليبيات ليس لهم الخبرة والإلمام الكافى بهذه العملية وقد لا يستطيعون القيام بها بالصورة المثلى أو لعدم إلمامهم سيعزفون عنها، وكان رأيى دائمًا أن الليبيين سيقدمون نموذجًا رائعًا وسيذهل المراقبون والمتابعون للتواجد والاهتمام غير المسبوق بالعملية الانتخابية. نعم، كنت على ثقة من ذلك وكنت مطمئنًا كل الاطمئنان، وتبلور ذلك عندما أعلن عن التسجيل ورأيت الأعداد التى تقوم بالتسجيل فى المراكز المعدة لذلك ثم بعد ذلك بدأت أحس بأننا فى ليبيا متعطشون لهذه الممارسة واتضح لى ذلك واضحًا فى عرس بنغازى عندما انتخبنا منذ أشهر قليلة المجلس المحلى، وكم كان رائعًا التواجد والروح المعنوية العالية التى صاحبت العملية الانتخابية، هنا تيقنت أن الشعب يريد أن يصنع ليبيا الجديدة كما صنع ثورته من قبل. ولكن ما حدث من حوارات أعقبتها مجموعة من المطالبات والمواقف التى تخوف العديد من المراقبين أنها قد تفسد العملية الانتخابية وما صاحب ذلك من تعنت وأفعال لا تمت للحوار الديمقراطى بصلة من حيث الاعتداء والحرق وقفل الطرق...إلخ.. رغم كل ذلك كنت على يقين أن الأغلبية من الشعب الليبى بل كلهم يرغبون فى الاستقرار والحياة فى أمن وأمان؛ لبناء ليبيا الجديدة، ووضع الكثير أيديهم على قلوبهم خوفًا من إفشال هذا العمل المهم ولكنى لم أخف أبدًا لأنى على ثقة كبيرة بهذا الشعب العظيم الذى منذ قيام الثورة لم يتأخر فى مؤازرتها والدفاع عنها ضد الأزلام والمتسلقين والانفصاليين. ودعونا نحلل الموضوع بأكثر عمقٍ فى نقاط متعددة: الأولى: أنه منذ البداية كان يفترض أن ننتخب جمعية تأسيسية أو مجلس تأسيسى قد نمنحه بعض السلطات التشريعية خلال الفترة الانتقالية الثانية ولكن مهمته الرئيسية هى الدستور وإعداده واستفتاء الناس عليه، إضافة إلى أن يصدر منذ بداية عمله قانونًا ينظم العلاقة بينه وبين السلطة التنفيذية والقضائية خلال الفترة الانتقالية الثانية، ولكن الذى حصل العكس تقرر أن نعمل مؤتمرًا وطنيًا يمارس السلطة التشريعية وبالتالى قاعدة اختياره وفقًا لمعيار السكان ونعطيه حق الجانب التأسيسى وهو إعداد الدستور وهو الخطأ لأن الجمعيات والمجالس التأسيسية يكون اختيارها بالتوافق والتساوى بين أطياف وفئات المجتمع، ونحن فى ليبيا سبق لنا أن اهتدينا للجنة الستين وكان التوزيع فيها جهويًا بالتساوى، من هنا حدث اللغط وسوء الفهم وظهرت المواقف التى تنادى بالتساوى فى المقاعد. ثانيًا: الحقيقة أنا لم أكن متخوفًا من فكرة الفيدرالية رغم تحفظى على كيفية تداولها ومن يقودونها إلا أنهم وقعوا فى المحظور عندما تبنوا موضوع المقاعد وتسويتها لخدمة توجهاتهم، وأيضًا استعمالهم للعنترية والفرض بالقرارات أولاً ثم بالعمل التخريبى واستعمال السلاح. فظهرت الحقيقة أن الموضوع ليس موضوع نظام حكم وإنهاء التهميش والإقصاء وإنما هو الوصول للسلطة حتى التربع عليها بأى شكل من الأشكال، ولكن على هؤلاء وأتباعهم الطيبين منهم الذين فعلاً ساروا وراءهم لأنهم يحبون بنغازى ويحبون برقة ولا يرضون بالتهميش مرة ثانية أقول لهؤلاء: إن الوضع الصحيح هو السعى وراء النص فى الدستور على الحكم المحلى القوى الذى من خلاله تقوم الأقاليم بانتخاب مجلسها التشريعى المحلى وتختار رئيس الإقليم أو المحافظ أو الوالى ولكن ليس بالضرورة بل لن تكون ثلاثة أقاليم أو ثلاثة ولايات، الأمر يجب أن يترك إلى دراسة اجتماعية اقتصادية سكانية لمقومات كل إقليم، وهناك خبراء فى الأممالمتحدة وفى ليبيا يستطيعوون القيام بذلك ثم يستفتى الناس على التوزيع الإقليمى، ثم يتوافق السكان فى الإقليم على نتائج الدراسة وبالتالى يكون الحكم المحلى الليبى، ولنترك كلمة الفيدرالية لأنها أصبحت سيئة السمعة بفعل الانحرافات التى حصلت من بعض المنسوبين إليها، إذا فيدراليتنا الليبية تكون بعنوان "حكم لا مركزى" من خلال حكم محلى له كل الصلاحيات فيما دون أمور السيادة من النفط والثروات الطبيعية والخارجية والدفاع والأمن الوطنى والعمل. ثالثًا: بعد محاولات عديدة منى ومن غيرى وفقنا بإذن الله أن نقنع المجلس أولاً أن يفصل بين الهيئة التأسيسية للدستور ويعطيها اختصاصاتها عدا الدستور، وأن يكون أعضاؤها بالتساوى بين جهات ليبيا الثلاثة، ثم حدث التغيير الأخير الذى وضع نصًا رائعًا بأن يتم اختيار هذه الهيئة بالاقتراع المباشر وهذا جميل، وسبق لى أن قدمت مقترحًا حول آلية الاختيار لهذه الهيئة وكيف يجب أن تكون من جميع أطياف المجتمع وفئاته يعنى علماء اقتصاد.. اجتماع.. دين.. سياسة.. قانون.. وفئات العمال.. الفلاحين.. المهنيين.. الحرفيين.. رجال الأعمال.. المرأة.. الشباب ذوى الاحتياجات الخاصة.. الجيش.. الأمن...إلخ.. والمهم أن يتم ترك تقسيم هذه الهيئة للمكونات السياسية (الأحزاب الحديثة) لأن إعداد الدستور لن يكون لصالح حزب معين أو فئة معينة بل كل أطياف الليبيين يجب أن يشاركوا فيه. بالتالى فإن التعديل أوكل للمؤتمر الوطنى وضع الأسس التى من خلالها يتم توزيع وتصنيف الأعضاء العشرين فى كل إقليم، ونرجو أن يهتم المؤتمر الوطنى العام فى هذا الشأن بمراعاة ما يلى: 1- عدم وضع أى آلية يكون فيها اختيار الأعضاء من خلال الكيانات السياسية. 2- العمل على توصيف أعضاء الهيئة وفقًا للتوزيع الفئوى والمهنى والتخصصى لكل الليبيين والليبيات. 3- ألا تسيطر على المؤتمر فكرة أن الأمر يخص إعداد الدستور فنكثر من القانونيين بل الصحيح أن يمنح القانونيون نصيبهم مثلهم مثل بقية الفئات ولكن تمنح للهيئة صلاحية الاستعانة بخبراء الدستور والقانون المحليين والعالميين وكذلك منظمة الأممالمتحدة ووكالاتها المتخصصة والاتحادات الإقليمية والعربية. على هذا الأساس نستطيع أن نسير بشكل منظم فى إعداد دستورنا وبناء دولتنا دولة ليبيا الجديدة، نعم لقد كان المخاض مؤلمًا أخذ منا الوقت الكثير وشغل بالنا أكثر وخفنا فى فترته كثيرًا، ولكن إرادة الله ورعايته لهذه الثورة سخرت لنا الحلول وهدت الناس إلى طريق الصواب وحفظت البلاد والعباد مما لا يحمد عقباه، الحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله تعالى، وها هو الأمر بعد المخاض بدأت ملامح الولادة ميسرة طبيعية لم نحتََج فيها لمشرط الطبيب، وما علينا الآن إلا أن نمنح المولود حقن التطعيم ونغذيه؛ لكى يستطيع خلال العام أن يقف على رجليه... ودمتم. [email protected]