"فرنسيو العيب": كتاب يكشف الوجه المظلم للمجتمع الفرنسي. "الكلاب": كلمة إذا سمعناها نعتقد أنها شتيمة. ولكن النظرة إلى الكلب في فرنسا تبدلت مند زمن، وأصبح من يريد أن يكرم صديقا يسميه كلبه باسمه. "فرنسيو العيب"، كتاب صدر في باريس يعالج هده الناحية في الحياة الخاصة لدى الفرنسيين ويطرح أزمة العائلة وازدياد العزلة الفردية في المجتمع الفرنسي. رفضت فاليري تلك الليلة أن تقوم بواجباتها المدرسية، لأن الطفلة التي لم تتجاوز العاشرة من عمرها، شعرت أنها لم تعد تفهم شيئا مما تقرأ...ولكن والدتها بالتبني السيدة شرينير ألحت عليها، فواجهت فاليري إلحاح والدتها بالعناد. فضربتها الوالدة ضربا مبرحا... وفي المساء تسمرت فاليري جثة هامدة في مغطس الحمام. "الطفلة لم تشأ القيام بواجباتها المدرسية، ففقدت أعصابي وضربتها. ولا أعي الآن مادا حصل بعد ذلك"، هكذا قالت السيدة شرينير لرجال التحقيق أثناء توقيفها. وقرر فيكتور شرينير وزوجته شانتالي بعد عشرين عاما من الزواج أن يتبنيا طفلا بعدما تأكدا من عدم قدرتهما على الإنجاب. ومند خمس سنوات وجدا توأمين: فاليري ودومينيك فاضطرا إلى تبني الاثنين معا، لأن الطفل والطفلة تعلق الواحد منهما بالآخر تعلقا عاطفيا ومن الصعب فصلهما. لكن اليتيمين لم يسعدا بالأبوين الجديدين. فالزوجة تريدهما أن يكونا متفوقين بين أترابهما في المدرسة ومهذبين إلى أقصى الحدود. لذلك كان عليهما بعد العودة من المدرسة أن يبقيا مرابطين في البيت أمام الكتاب أو الدفتر.. وكانت السيدة شرينير حين تغضب تعنفهما، فيتدخل زوجها فيكتور ليهدئ من روعها ويعيدها إلى رشدها. ولكنه كان غائبا عن البيت ليحمي الطفلة من غضب أمها بالتبني. هذه الواقعة حصلت في إحدى القرى الفرنسية وننقلها حرفيا لأنها نموذج عن المأزق الذي وصلت إليه العائلة الفرنسية والغربية عموما، ولا يمكن لأحد أن يستمع إلى قصة من هذا النوع أو يقرأ خبرا مشابها دون أن يقشعر بدنه. فالسيدة شرينير حين تبنت طفلين كأنها تشتريهما للامتلاك تماما كما يشتري الفرنسي قطا أو كلبا لمرافقته ومؤانسته. فالأب الذي بدا يشعر أن سلطته باتت محدودة على أبنائه والأم التي تعرف أن ابنها حين يبلغ الثامنة عشرة يترك البيت ليقيم وحده متحملا أعباء حياته بمفرده ومتخليا نسبيا عن مسؤولياته تجاه والديه، أصبحا يستبدلان الأبناء بالحيوانات الأليفة، لأن بإمكانهما أن يمارسا معها كل رغبتهما بالامتلاك ويفرضا عليها الشروط التي يريدانها. ليس سهلا أن نعالج كتاب" فرنسيو العيب" للصحافيين الفرنسيين جاك- لوكهينيغ وغي هوكينغهايم الصادر بباريس، لما يحمل هذا الكتاب بين دفتيه من فضائح إنسانية تحصل على هامش الحياة الفرنسية، ولكنها تلعب دورا بارزا وأساسيا في بلورة الأخلاق الاجتماعية بفرنسا. والجدير بالذكر أن مواد هذا الكتاب والأحاديث التي أجريت مع الناس بثت على حلقات عبر الإذاعة الباريسية أوروبا رقم 1 التي يعمل فيها الصحافيان. وليس ضروريا أن تكون كل هذه المآسي من الخصوصيات، بل لعلها موجودة في كل المجتمعات الدنيا عموما لا سيما المجتمعات الغربية، "إنها جانب من الحياة اليومية، يقول هوكينغهايم، موجودة في كل مكان ولكن في صورة متسترة، ونحن حاولنا أن نقرأ هذه الأزمات اليومية من العمل إلى العائلة والسياسة والعلاقات العاطفية كما هي موجودة بفرنسا اليوم. وتبين أن الذي يحصل في الولاياتالمتحدةالأمريكية صراحة يحصل هنا في شكل متستر نسبيا. الخطب السياسية والأحاديث العامة عندنا لا تزال جامدة على قوالب معينة، وكأن فرنسا اجتماعيا تعيش في سنة 1910. والحقيقة أن هذا الواقع تبدل نوعيا ضمن البنية الاجتماعية الفرنسية وإن لم يتبدل في الخطب الرسمية". وأول ما يلاحظه الكاتبان في هذا الجانب هو انتشار ظاهرة الحيوانات الأليفة في فرنسا وخصوصا الكلاب. لأن الكلب يؤمن الرفقة حين نكون في عزلة، يقول خهينيغ ويتابع: "إن المجتمع الغربي يتحول شيئا فشيئا إلى مجتمع تسيطر العزلة. فكل في بيته غريب عن محيطه ويسعى إلى خلق مناخه الخاص المستقل كليا عن الآخرين والبعيد عنهم أيضا. لذلك تلاحظ كثرة الأبناء الذين يضعون أهلهم في مأوى العجزة. ويلاحظ جان لوك هينيغ أن التهرب من المسؤولية العاطفية (وأحيانا المادية) تجاه الأهل يقابلها أيضا تهرب من المسؤولية تجاه الأولاد. وكثيرا ما يتذمر الفرنسيون من مسؤولياتهم تجاه أبنائهم ويشعرون أنها عبء عليهم. ولعل التعنيف يكون أحيانا إحدى ظواهر هذا التذمر. لذلك يلاحظ هينيغ أن الفرنسيين يرون أن ضرب الكلب أخطر من ضرب الطفل. وهذا ما لاحظه من أحد الأجوبة، إذ اعتبرت إحدى السيدات أن لا فرق "بين الكلب أو القط وبين الطفل". وتضيف أنها إذا رأت أحدا يضرب كلبا في الشارع تثور وتتدخل لنصرة الكلب. وجوابا على سؤال إذا كانت تفعل الأمر نفسه بالنسبة إلى الطفل، قالت: "في حال الطفل الأمر يصبح أكثر تعقيدا، إذ إننا لا نستطيع أن نعرف إذا كان البالغ على حق أم لا في تسديد صفعتين إلى الطفل". ورأي المغني جوني هاليداي لا يبتعد كثيرا عن رأي هده السيدة، إذ يقول في إحدى الندوات التي أجراها هينيغ وهوكينغهايم معه على الراديو: "إن الكلب حساس مثل الطفل وأكثر لأنه يبقى طفلا طوال حياته". ولا تجد حرجا سيدة أخرى في أن تقول إنها تضرب أولادها عندما ترى ذلك ضروريا، أما الكلب فلا. "لأن الكلاب أقل حماقة من الأولاد ويعطوننا شعورا بالاكتفاء أكثر". ولاحظ غي هوكينغهايم أن الفرنسيين يشعرون بالأسف والذنب إذا عنفوا كلبا أكثر بكثير مما لو عنفوا طفلا. ويعتقد أن آخر عاطفة وآخر قبلة وآخر دمعة هي دائما للكلب. تسعة ملايين كلب في فرنسا رقم دقيق وغير مبالغ فيه، وتشكل هذه الكلاب عبئا حقيقيا على الاقتصاد الفردي والعام. "فثلاث عائلات من أصل أربع تملك ابنا إضافيا هو الكلب"، يقول هوكنغهايم... وفي حال وجود الكلب، لو خيرت امرأة بين كلبها وصديقها لاختارت الكلب، ولو حصل وتخلى امرؤ عن كلبه، لفترة من أجل صديقه لسقط في دائرة الشعور بالذنب لفترة طويلة. وترد في الكتاب أمثلة كثيرة على ذلك. هنا يربط هوكنغهايم وهينيغ بين الوعي الاجتماعي الجديد الذي يتبلور في المجتمع الفرنسي وبين الخوف من التخلي عن الإحساس الناجم عن المفهوم القديم للعائلة. فالشعور بالملكية الذي كان يرافق مفهوم العائلة بدأ ينهار مع انهيار العائلة نفسها. ويشير هينيغ إلى فيلم أمريكي يدعى "الكلاب"، يحكي قصة مدينة أمريكية صغيرة يضربها التلوث بالهواء الأمر، الذي يجعل الكلاب المسعورة وشرسة وذات قوة خارقة. وفي ليلة معينة تبيد الكلاب كل أبناء هذه المدينة. ويضيف: "في قصة خيالية من هذا النوع نكتشف الوجه الآخر للملكية، وهو التمرد والانتقام. إن الحيوانات هنا تنتقم للعبودية التي يجعلها الإنسان تخضع لها". وردا على القول السائد إن الاقتراب من الحيوان يشكل انفتاحا جديدا للإنسان، يقول هينيغ: "إن هذا الرأي يكون صحيحا إذا لم ترافقه مظاهر العزلة لدى الإنسان وابتعاد الناس عن بعضهم، بحيث بات كل فرد يعيش في شرنقة ضيقة يصعب عليه الخروج منها... العزلة تدفع المرء إلى التخلي عن أي قيمة أخلاقية معينة. مثل قيم الكرم والشجاعة وإغاثة الآخرين. ويمكنك أن تجد شخصا مطروحا أرضا في الطريق والناس يمرون قربه غير مكترثين بوجوده. ومن النادر أن يفكر أحد بأن يمد له يد العون". والنتيجة التي توصل إليها الكاتبان، أن الأزمة الأخلاقية والاجتماعية التي تعيشها فرنسا اليوم هي أزمة البحث عن أخلاق جديدة تتناسب مع الحالة الاجتماعية كما تطورت حتى الآن. وهذه الأخلاق الجديدة في طور تكونها. ولكن يصعب الإفصاح عنها، كما يصعب التطرق إليها أو تبنيها عبر خطاب اسمي. وهنا الخبث والانفصام، فما يحصل شيء وما نقوله شيء آخر.