وقفت الجيوش الصليبية عند أسوار بيت المقدس، بعد أن نجحوا فى صناعة أبراج خشبية ومعها آلات دك الأسوار، وكانت تلك الأبراج تتكون من ثلاثة طوابق: الأول لفرق تدفع البرج من أسفل على عجلات، والثانى مخصص للفرسان، والثالث لرماة السهام.. وعجّل من الإسراع بالهجوم ما وصل إلى الصليبيين من أن الوزير الفاطمى الأفضل الجمالى فى طريقه من مصر على رأس جيش ضخم لإنقاذ مدينة بيت المقدس. وفى مساء الأربعاء الموافق 13 من يوليو 1099م شن الصليبيون هجومًا حاسمًا، ونجحت حامية المدينة فى حرق البرج الذى اقترب من السور الواقع عند باب صهيون، ولم يملك الصليبيون إزاء هذا الدفاع المستميت والخسائر التى منوا بها سوى الانسحاب بعد يوم من القتال الشديد. لكن هذا الفشل زاد الصليبيين إصرارًا، وأوقد الحماسة فى نفوسهم لاقتحام المدينة، والاستيلاء عليها مهما كان الثمن، فشنوا هجومًا ضاريًا فجر يوم الجمعة الموافق لمثل هذا اليوم عام 1099م، واستمر القتال متكافئًا حتى تمكن البرج المتبقى لهم من الالتصاق بالسور، وإنزال الجسر المتحرك الذى يصل بين قمة البرج وأعلى السور، فعبر خلاله الجنود واستولوا على جزء من السور الشمالى للمدينة، ونجح عدد كبير من المهاجمين فى الاندفاع إلى المدينة، وولت الحامية الفاطمية الأدبار نحو الحرم الشريف، حيث توجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى، واحتموا بهما، وبذلك سقطت المدينة فى أيدى الصليبيين بعد حصار دام أكثر من أربعين يومًا. بعد أن دخل الصليبيون المدينة المقدسة تملكتهم روح البطش والرغبة فى سفك دماء العزل الأبرياء، فانطلقوا فى شوارع المدينة يذبحون كل من يقابلهم من رجال ونساء وأطفال، ولم تسلم المنازل الآمنة من اعتداءاتهم الوحشية، واستمر ذلك طيلة اليوم الذى دخلوا فيه المدينة. وفى صباح اليوم التالى استكمل الصليبيون الهمج مذابحهم فقتلوا المسلمين الذين احتموا بحرم المسجد الأقصى، وكان أحد قادة الحملة قد أمنهم على حياتهم، فلم يراعوا عهده معهم، فذبحوهم وكانوا سبعين ألفًا، منهم جماعة كبيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارقوا الأوطان وأقاموا فى هذا الموضع الشريف. ويعترف مؤرخو الحملات الصليبية ببشاعة السلوك البربرى الذى أقدم عليه الصليبيون، فذكر مؤرخ صليبى ممن شهد هذه المذابح وهو "ريموند أوف أجيل"، أنه عندما توجه لزيارة ساحة المعبد غداة تلك المذبحة لم يستطع أن يشق طريقه وسط أشلاء القتلى إلا بصعوبة بالغة، وأن دماء القتلى بلغت ركبتيه. وكتبوا إلى البابا يفتخرون بما فعلوا دون وازع من خلق أو رادع من دين، فما لامهم ولا استنكر فعلتهم! واختار الصليبيون جودفرى حاكمًا على المدينة المقدسة، وراحوا يتطلعون إلى المزيد من الصليبيين الجدد من أوروبا، وأقاموا بطريركية رومانية، وصبغوا البلد بالصبغة الكاثوليكية. وظلت مدينة بيت المقدس أسيرة حتى حررها صلاح الدين الأيوبى فى 29 من أكتوبر 1187م، وكان سلوكه حين دخل المدينة فاتحًا يختلف تمامًا عما فعله الصليبيون من وحشية وسفك للدماء.