آخر مرة التقيت فيها بالمفكر الكبير د. عبد الوهاب المسيري، كان قبل رحيله بأسبوعين تقريبًا، في حفل توقيع كتاب "الأيام الأخيرة" للزميل العزيز د. عبد الحليم قنديل، في نقابة الصحفيين، وكعادته كان مرِحًا متفائلاً، لا تغيب القفشة ولا النكتة عن مداعباته لمَن يعرف ومَن لا يعرف. كانت القاعة مكتظة بالعشرات من الحضور، لا تكاد تجد مكانًا لتقف ولا أن تمشي فيه، وحرص المسيري والذي حضر للنقابة "مسندًا" أو قل محمولاً على كتفَي رجُلين من محبيه أو أصدقائه على أن يتقدم الصفوف؛ ليشارك قنديل فرحته، ويلقي كلمته باسم حركة "كفاية". المسيري يمثل نموذجًا فريدًا، بل نادرًا للمثقف العربي "المسئول".. فمَن يقابل المسيري في الشارع وعلى هيئته التي كان عليها منذ إصابته بالسرطان، وإلى أن فاضت روحه إلى بارئها، ولا يعرفه.. لا يكاد يصدق أن هذا الرجل السبعيني والمريض، والذي لا تقوى قدَماه على حمل جسده الضعيف، يقود أكثر حركات المعارضة تحدّيًا للرئيس مبارك، ويشارك في المظاهرات، ويشتبك مع الشرطة، وقبل وفاته بشهور قليلة تختطفه فرق كاراتيه الداخلية، ثم ترمي به في صحراء السُّويس! مصر.. باتت أشهر دولة عربية، بوجود أنماط متعددة من المثقفين، مثل "مثقف الصالونات"، "مثقف المِنصات"، "مثقف الفضائيات"، والذين يناضلون من منازلهم.. ولم تعرف مصر منذ أفول عهدها الليبرالي بعد حركة يوليو 1952، نموذجًا يشبه المسيري في باطنه كمفكر، وفي ظاهرة كمناضل سياسي. ظهر عبد الوهاب المسيري، في وقت تخلى فيه مثقفو "الصوبات" عن الجيل الجديد.. جيل المحنة والذي لم يعرف عن مصر إلا العشوائيات والفقر والمرض والجهل والبطالة والقمع الاجتماعي والطبقي والإداري والسياسي.. لم يعرف إلا مصر المخطوفة.. مصر المسروقة والمهضومة في كروش وجيوب باشاوات المنتجعات الفارهة المغلقة والمعزولة.. ظهر المسيري فيما كان مثقفو "الحظائر"، يتاجرون بمحنة هذا الجيل، تزلُّفًا لأهل المنتجعات، وابتزازهم أملاً في اللحاق بأطرافها أو العيش على فتاتها.. ظهر المسيري في اللحظة التي كان ينبغي أن يظهر فيها، ليُحرِج الجميع، وليُخجل مَن لا يزال تجري في عروقه قطرة دم.. ولكن، للأسف، لقد اختبر ظهور المسيري المناضل السياسي سماكة جلود مثقفي الصوبات، والتي تبلدت إلى الحد الذي لم يؤثر فيهم مشاهدة هذا الشيخ المريض بالسرطان، وهو يتظاهر وسط القاهرة وفي أكثر شهور صيفها القائظ قسوةً، وكأنه شاب في العشرين من عمره.. لم تؤثر فيهم أنفاس المسيري المتهتكة، وهي تتحدى الغاز المسيل للدموع، ولا صدره الذي أنهكته جرعات الكيماوي، حين كان مكشوفًا للرَّصاص المطاطي، وظهره الذي أرخته سنوات العمر، عاريًا أمام هِرَّاوات الشرطة.. إذ ظل "كبار" المثقفين والصحفيين، يرفُلون في نعيم الفضائيات، يمثلون علينا دور البطولة، ودور "المعصوم"، الذي كلامه نبوءة، وتحليلاته وحي، يستمع إليه "بهاليل" الأمة وكأن على رؤوسهم الطير! ومثلما تاجروا بمحنة المصريين، تاجروا بالمسيري، حتى في وفاته؛ إذ تخلف منهم البعض عن صلاة الظهر، والصلاة عليه، وانتظروا خلف الصفوف، بالقرب من مندوبي الصحف والفضائيات خوفًا من أن يفوتهم الظهور أمام الكاميرات، فإذا قُضيت الصلاة كانوا هم أول مَن يظهر في المشهد؛ ليمثلوا علينا دور البطولة مجددًا. رحم الله الدكتور المسيري، ونسأله تعالى أن لا يفتنا بعده، ولا يحرمنا أجره .. آمين. (كتبت هذا المقال في "المِصريون" يوم 4 يوليو 2008). [email protected]