الوزراء في مصر من التكنوقراط، أي من النخب أصحاب الكفاءات العلمية والفنية المتخصصة، وهي نخب غير مسيسة، ولا ترتبط بأحزاب ونشاط سياسي، والتعديل الوزاري الأحد الماضي استمرار لهذا النهج الذي بدأ مع إعلان الجمهورية قبل 65 عاماً، فالوزراء الأربعة الجدد خلفوا أربعة أكاديميين مثلهم، وهذه الحالة الحكومية لا تحدث إلا في النظم ذات الشرعيات التقليدية، الملكيات الوراثية، والنظم التي لا تشهد تداول للسلطة، فالحكومة يختارها الحاكم، وهو من يصرفها، ورئيس الحكومة منفذ لسياسة الحاكم، ومساهمة رئيس الحكومة في رسم السياسة العامة محدودة. المادة 150 من دستور 2014 جعلت مجلس الوزراء شريكاً مع رئيس الجمهورية في وضع السياسة العامة للدولة، وهذا أمر جديد، وعلاوة على ذلك تقوم الحكومة بإدارة العمل التنفيذي، وهنا يكون للحكومة دور أساسي سياسي وتنفيذي، ولا تظل مجرد سكرتارية للرئيس، كما قرر الدستور في المادة 147 أن التعديل الوزاري يكون بالتشاور بين الرئيس ورئيس الوزراء، لكن لا نعلم مدى استفادة رئيسي الحكومتين في عهد السيسي من الصلاحيات الجديدة، محلب سابقاً، ثم شريف إسماعيل حالياً. كانت الحكومات في النظام الملكي المصري سياسية تماماً، وكان الوزراء من رجال السياسة من الحزب الذي يشكل الحكومة سواء كان الوفد حزب الأغلبية أو من أحد أحزاب الأقلية، أو من تحالف حزبي، ولذلك تجد مثلاً فؤاد سراج الدين يتولى حقيبة المالية في حكومة وفدية، وفي حكومة وفدية أخرى يكون وزير داخلية، ونلاحظ أنه تولى حقيبة الداخلية، ولم يكن ضابطاً، فهذا هو الطبيعي في الحكومات الحزبية السياسية التي لا تعرف وزراء التكنوقراط إلا نادراً، وفي النظام الجمهوري تبدل كل شيء لتكريس زعامة وقيادة وبروز شخص واحد وهو الرئيس، ولا يزال النظام السياسي الذي يكرس محورية دور الرئيس في السلطة قائماً. هناك من سيقول إن النظام الرئاسي في الديمقراطيات يمنح الرئيس الدور الأكبر في العمل التنفيذي، وهذا صحيح، لكن نزاهة الحكم، وتداول السلطة يضمنان أن الرئيس لن يستبد ولن ينفذ سياسات غير شعبية وغير ديمقراطية، بل يتحسب لكل قرار وخطوة يقوم بها حيث تنتظره انتخابات ستكون هي الحكم عليه فيبقى أو يرحل، والوزراء في حكومته رجال سياسة من حزبه أو من تياره السياسي، فرنسوا أولاند الرئيس الفرنسي السابق شكل حكومته من حزبه الاشتراكي، وكذلك كل رئيس سابق عليه، وماكرون الرئيس الحالي، ونظراً لأنه لم يكن ينتمي لحزب معين واعتبر نفسه وسطياً وعابراً لكل الأحزاب، فإنه شكل حكومته من توليفة من اليمين واليسار، ولما حول حركته "إلى الأمام" إلى حزب بدأ يعتمد عليها في تخريج كوادر سياسية وتنفيذية تعاونه في الحكم، وفي أمريكا يأتي الرئيس الجديد بوزرائه وكبار موظفي إدارته من حملته الانتخابية ومن رفاقه وأنصاره، ووزير الخارجية الأمريكي الحالي ريكس تلريسون مهندس ومسؤول نفط وغاز كبير، ما علاقته بالعمل الدبلوماسي الذي لم يمارسه يوماً؟، لا يهم، فهو يشارك الرئيس في ترجمة برنامجه الانتخابي للسياسة الخارجية إلى عمل تنفيذي وهما يتشاركان أيضا الرؤى والمواقف السياسية. غياب السياسة في بلدان العالم الثالث يجعل الحكومات غير مسيسة، حكومات فنية، حكومات كبار الموظفين، حدود تحركاتها مقيدة برؤية الحاكم، لا دور كبير لها في وضع خطوط وتفاصيل تلك الرؤية، عليها التنفيذ فقط، في النظم الرئاسية في الغرب تعمل الحكومة أيضاً على تنفيذ سياسة الرئيس التي نجح على أساسها في الانتخابات، لكن أعضائها هم رجال المرشح الذي صار رئيساً، هم معه في الحزب، وهم الشركاء في صياغة البرنامج الانتخابي، ودورهم مع الرئيس الفائز تنفيذ الرؤية الحزبية الجماعية التي حازت قبول الناخبين، بينما في العالم الآخر توضع رؤية، أو لا توضع، فهذا ليس ضرورياً في غالب الأحيان، فالرئيس إما مستمر باستفتاءات، أو بانتخابات شكلية، وبالتالي يجلب من يثق فيهم لإدارة العمل التنفيذي اليومي فقط، والسياسات تُرسم يوماً بيوم أو حسب التساهيل. ومن الجديد في الدستور المصري أنه أوجب على الرئيس عرض التشكيل الوزاري، وكذلك أي تعديل وزاري، أو إعفاء الوزارة، على البرلمان ممثل الشعب في الرقابة على السلطة التنفيذية، للموافقة عليه أو الرفض بالطبع وفق المادتين 146 و147، لكن سلطة التشريع لم تستثمر هذا الدور الدستوري المهم حتى الآن في ممارسة صلاحياتها، وإعطاء ملمح ديمقراطي باستقلال فعلي للسلطات، والإشارة للشعب بأنها تراقب وتحاسب سلطة التنفيذ وتقوم بدورها كاملاً، مجرد ظرف مغلق بتشكيلة حكومة جديدة، أو بتغيير عدد من الوزراء، يُفتح وتُعرض الأسماء، وتتم الموافقة فوراً، لم يُراجع اسم واحد ويتم التوقف أمامه، أو يُرفض اسم واحد، لتسجيل سابقة بأن البرلمان يُفّعل صلاحياته الدستورية، وفي التعديل الأخير لم يتوقف أحد مثلاً أمام اسم رانيا المشاط التي تولت حقيبة السياحة، باعتبار ألا علاقة لها بهذا المجال، فهي متخصصة في الاقتصاد، وتمارس العمل المالي، لم يسأل أي نائب ما هو مبرر اختيارها، ولماذا تمت إقالة الوزير السابق؟، لم يسأل أحد كذلك ما ضرورات هذا التغيير وتوقيته؟، ولماذا إقالة هؤلاء الأربعة دون غيرهم؟، وفيما فشلوا؟، كما لم يسأل أحد لماذا لم يتغير رئيس الحكومة نفسه وهو مريض - شفاه الله - ويخضع للعلاج وكفاءته وقدرته على العمل ولياقته لن تكون جيدة؟، والمنصب الذي يتقلده يتطلب اليقظة والنشاط والحيوية والعمل ساعات طويلة والمتابعة لكل صغيرة وكبيرة في العمل التنفيذي في بلد كبير متخم بالمشاكل والأزمات، و لا ينفع أن يدير الحكومة من البيت، أو السرير، أو وهو تحت تأثير البرنامج العلاجي. خلاصة هذا المقال الذي يستكمل ما سبقه أنه في سياق طبيعة أي نظام سياسي يقاوم التطور الديمقراطي، فإن التقدم يكون متعثراً أو بطيئاً، بينما في العالم الحر يكون التقدم دوماً للأمام محققاً رفاهية الشعوب باعتبار النظام السياسي منفتح وخلاق وعمل جماعي ومسؤوليات مشتركة. هكذا السياسة في بلاد الازدهار السياسي، تمارس العمل العام وعينك على الفوز بالسلطة للخدمة العامة، وفي بلاد الجمود السياسي هناك شخصية قيادية واحدة تتحكم في كل مفاصل الدولة. [email protected]