سيظل يوم 17 يونيه يومًا هامًا فى التاريخ المصرى، ليس باعتباره اليوم الختامى لأول انتخابات رئاسية غير صورية فى التاريخ المصرى، لكن الأهم أنه أصبح يوم استقلال الجيش المصرى عن الدولة المصرية، وهو بهذا يستحق أن يكون عطلة رسمية سنوية!! فبصدور الإعلان الدستورى المكمل (المكمل على ما تبقى من المجتمع المدنى) أصبح الجيش دولة مستقلة تمامًا لا تربطه بالدولة المصرية إلا أنها ممول، تشترى له السلاح وتدفع مرتبات أفراده وليس لها به علاقة غير ذلك، وتعالوا نستعرض المواد العبقرية التى مثلت إعلان الاستقلال العسكرى. فالمادة 53 مكرر، جاء نصها: (يختص المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالتشكيل القائم وقت العمل بهذا الإعلان الدستورى بتقرير كل ما يتعلق بشئون القوات المسلحة وتعيين قادتها ومد خدمتهم)!!!، هذا محض استقلال عن الدولة وقيادتها السياسية، واستحواذ على مبدأ التمديد والتوريث الذى أراده مبارك لنفسه كرأس للدولة فإذا به يصل للمجلس العسكرى، حيث يستطيع رئيسه أن يمد خدمته وخدمة معاونيه فى مناصبهم إلى أن يشاء الله!!، ثم يعين مَن يشاء من بعده، وفى هذا رجوع مع مبدأ الدولة المدنية إلى حالة الدولة العثمانية فى عهود الضعف، حيث كان الوالى العثمانى لا يملك من الأمر شيئًا، والعسكر المماليك يتحكمون فى الأمر كله. والمادة 53 مكرر(1)، تقييد سلطة رئيس الجمهورية فى إعلان الحرب بإضافة "بموافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة"!!، وبالتالى أصبح هناك وصاية مباشرة من العسكر على القرار السيادى، وبدلاً من أن يكون الجيش أداة من أدوات القيادة السياسية صار وصيًا عليها. كما أجازت المادة 53 مكرر(2) لرئيس الجمهورية وبموافقة المجلس الأعلى "إصدار قرار باشتراك القوات المسلحة فى مهام حفظ الأمن وحماية المنشآت الحيوية للدولة" فى حال حدوث اضطرابات داخل البلاد!!، هذه المادة تتمم سابقتها، فالمادة السابقة تضع وصاية على الرئيس المنتخب فى الشئون الخارجية، وهذه المادة تضع وصاية عليه فى الشئون الداخلية، وبدلاً من إطاعة الأوامر التى هى طابع الحياة العسكرية فإن الجيش الآن لن يتحرك خارجيًا إلا بموافقة المجلس العسكرى، ولن يتحرك داخليًا إلا بموافقة المجلس العسكرى!! وبحسب المادة 56 مكرر، منح سلطة التشريع للمجلس العسكرى الأعلى "لحين انتخاب مجلس شعب جديد ومباشرته لمهامه"!!، وبالتالى جمع بين السلطة التنفيذية فيما يتعلق بالجيش، والسلطة التشريعية فيما يتعلق بالجيش والدولة كلها!! أما المادة الكارثة، وهى المادة 60 مكرر(1)، فقد منحت (رئيس الجمهورية أو رئيس المجلس العسكرى أو رئيس الوزراء أو المجلس الأعلى للهيئات القضائية أو خمسة أعضاء للجمعية التأسيسية طلب إعادة النظر فى أى نص فى مشروع الدستور الجديد "يتعارض مع أهداف الثورة ومبادئها الأساسية التى تتحقق بها المصالح العليا للبلاد أو مع ما تواتر من مبادئ فى الدساتير المصرية السابقة، وفى حال إصرار الجمعية التأسيسية على موقفها يمكن إحالة الأمر إلى المحكمة الدستورية العليا و"رأيها ملزم")، وهى مادة مطاطة تضع الدستور تحت وصاية المجلس العسكرى، وهو الذى عين رئيس المحكمة الدستورية العليا، التى ليس من اختصاصاتها بحال أن تكون قيمًا على الدستور، بل هى تتأكد من مطابقة القوانين مع الدستور، فالدستور حكم عليها وليس العكس، وطبعًا كلمة (قرارها ملزم) تناسب وضعية أن رئيسها الحالى مدين للمجلس العسكرى بمنصبه، كما أعطت هذه الوصاية لخمسة أعضاء اللجنة التأسيسية، فقط الخمسة وليس حتى الثلث، فأين نجد هذا الفيتو العجيب على اللجنة التأسيسية التى هى ممثلة لجموع الشعب!! إن هذا البيان هو محض انقلاب عسكرى بسلاح الورق عوضًا عن نشر الدبابات فى الشوارع، وهذا ما يؤكد ما حذر منه الكثيرون - باستثناء من أعمى العداء للتيار الدينى بصيرتهم- أن الخطر الحقيقى على الدولة المدنية إنما يأتى من العسكر، وليس من المدنيين بغض النظر عن توجههم، والدليل هو هذا الإعلان غير الدستورى بالمرة، والمناقض للدستور نصًا وروحًا، ومناقض للمواد التى استفتى الشعب عليها. أين نجد مثل هذه الأوضاع فى الدول المدنية الحديثة؟!!، إن هذا لم يحدث حتى فى أشد حالات طغيان المؤسسة العسكرية على الحياة المدنية أيام عبد الحكيم عامر فى الستينيات، وهى الأوضاع التى قادت إلى النكسة، وكل أوضاع مماثلة حتمًا ستقودنا إلى ذات المصير. [email protected]