لا أحد يشكّ أن أعظم منجزات الثورة على الإطلاق يتمثّل فى هذه الحقيقة: أن الجماهير قد استطاعت - لأول مرة - الإدلاء بأصواتها بحرية تامة، وأن تحقق إرادتها المستقلة لا إرادة الطاغية المستبد.. حدث هذا فى ثلاث مناسبات، وأربع جولات من الاستفتاء والانتخابات، توشك أن تكتمل بالخامسة، فى جولة الإعادة للرئاسة.. ولكن هناك مَن لا يريد أن يعْبُر الشعب إلى غايته بسلام، وهناك مَن لا يريد أن تحقق الثورة أهدافها.. وهؤلاء هم أعداء الثورة الذين يخشَوْن الديمقراطية، ويرون فيها خطرًا داهمًا على مصالحهم ووجودهم.. وما يجرى الآن على الساحة السياسية فيه مؤشرات على المصير الذى يُراد للثورة المصرية أن تنتهى إليه، بإعلان إنتصار مرشّح الجنرالات رئيسًا لمصر، وإعادة نظام مبارك بصورة جديدة، وهو الهدف الذى تسعى إليه - بكل شراسة - الاستخبارات الأمريكية بالتواطؤ مع القوى المعادية للثورة فى السلطة وخارج السلطة.. عُنوان هذه المرحلة هو: إشاعة الاضطراب والبلبلة والحَيرة، وضرب القوى الثورية بعضها ببعض، لتعميق حالة اليأس من الثورة لدى الجماهير. وفى هذه الأجواء المضطربة يأتى مؤتمر المستشار أحمد الزند مؤشرًا فاقعًا على اتجاه انتهازي نحو صدام مؤسّسي، إيذانًا بسقوط الدولة والثورة فى قبضة المجلس العسكري، ومن ثَمَّ فى حجْر الولاياتالمتحدةالأمريكية.. ومن المؤشرات ذات الدلالة الخطيرة على مخطط هدم الثورة نرصد هذه الوقائع: أولاً: الهجوم الغوغائي الذى شنَّه المستشار أحمد الزند على البرلمان فى مؤتمره الصحفي بنادى القضاة يوم الخميس الماضى، والتصريحات المستفزّة التى أدلى بها، ويكفى التوقيت الذى جاء فيه قبل موعد جولة الإعادة فى انتخابات الرئاسة بأيام قليلة.. ليدلّ على أنه دِعاية رخيصة لأحمد شفيق.. وأنه نذير بقرب الانقضاض على ثورة الشعب.. ثانيًا: يعزز هذه النظرة ارتفاع صيحة الفزاعة الإسلامية والإخوانية بصفة خاصة، وبقوة أكبر من أي وقت مضى، ويمضى توظيفها بإصرار لصالح أحمد شفيق، الذى تحوّل فى الإعلام من أكبر المعارضين للثورة وأول المشاركين فى محاولة إجهاضها عبر موقعة الجمل، من مركزه فى ذلك الوقت كرئيس للوزراء.. ومساعدته فى تهريب الأموال المنهوبة خارج البلاد، وتواطؤه مع وزير داخليته فى تدمير أدلة اتهام أعمدة النظام السابق على جرائمهم وسرقاتهم وفسادهم - تحوّل أحمد شفيق رغم هذا كله - فى الإعلام- إلى رجل الثورة والمدافع عنها الساعى لتحقيق أهدافها.. ثالثًا: لقد سبق أن هدد الجنزورى، رئيسَ مجلس الشعب، فى حضور أحد جنرالات المجلس العسكري (دليلاً على موافقته الضمنية) بأن أوراق بطلان انتخابات البرلمان قد أُودعت فى المحكمة الدستورية العليا، وستظهر نتيجتها عند اللزوم.. واللزوم هنا هو نجاح الإخوان بأغلبية برلمانية تسمح لهم بتشكيل حكومة.. وإليك هذا السيناريو المحتمل: الحكم ببطلان قانون الانتخابات التشريعية يترتب عليه إلغاء البرلمان، فإذا ارتبط هذا بإلغاء قانون العزل، واستمرت لُعبة جولة انتخابات الرئاسة بمرشح الجنرالات.. فتلك دلالة على نيات إضعاف مركز مرشح الثورة والتزوير لصالح أحمد شفيق.. أما إذا صدر قرار "الدستورية" بالموافقة على قانون العزل، فسوف يُستبعد شفيق، ومع إلغاء البرلمان، تعود الأمور إلى نقطة الصفر مرة أخرى، وتنهار كل منجزات الثورة، وتسقط كل السلطات في قبضة المجلس العسكري.. ولن تكون هنالك حكومة مدنية لتسلُّم السلطة، ولا مواعيد لإنهاء المرحلة الانتقالية، فإذا انفجرت ثورة شعبية ثانية، فسيكون للجنرالات مع الثورة شأن آخر! وعندئذ سيدرك الشعب - ولكن بعد فوات الأوان - أنه قد تم خداعه: من الذين أقسموا أن نياتهم حسنة، فيما يتعلق بوعدهم تسليم السلطة فى الموعد المحدد، ومن أصحاب الشعارات الرنانة عن العدالة الاجتماعية وحقوق الفقراء، ومن أصحاب الكاريزمات المنتحلة، الذين أجهزوا على فرصة المرشح الوحيد الداعم للشعب ولثورته؛ إنهم فى حقيقة الأمر قد مهّدوا الطريق - بمواقفهم الأنانية وبغبائهم أحيانًا - لأعداء الثورة وأعداء الديمقراطية أن يتسلقوا على جثة الثورة وعلى أكتاف الشعب المغدور به.. وأخيرًا أود أن أشير إلى الحقائق التالية: أولاً: المسئول الأول عن قانون الانتخابات التشريعية وتقسيمه بين مرشحين بقوائم ومرشحين خارج القوائم هو المجلس العسكري وترزية القوانين من أعوانه، فقد لغّموا القانون بديناميت لتفجيره عند اللزوم، واللزوم هنا هو أن الانتخابات جاءت بأغلبية إسلامية إلى البرلمان، وهذا لا ترضى عنه أمريكا، ومن ثم لا يرضى عنه المجلس العسكرى، الذى صرّح بوضوح - منذ البداية - على لسان أعضائه: أنهم لن يسمحوا للبرلمان بممارسة صلاحياته فى التشريع ولا فى مُساءلة الحكومة، وأنكروا حق حزب الأغلبية فى تشكيل حكومة، كما الشأن فى كل الديمقراطيات.. وكان هذا مؤشرًا على الرغبة المُبيَّتة لدى المجلس العسكري للتخلص من البرلمان فى أقرب فرصة، وقد تعزّزت هذه الرغبة بعد منافسة حزب الأغلبية البرلمانية فى انتخابات الرئاسة، وفوز مرشحهم بالمركز الأول، رغم ضراوة الدعاية المضادة.. ثانيًا: هاجم المستشار الزند البرلمان؛ لأن بعض أعضاء فيه استتنكروا الأحكام التى صدرت بتبرئة كبار المسئولين عن دماء شهداء الثورة وضحاياها، وطالبوا بإعادة المحاكمة على أسس صحيحة، وانتزاع الأدلة من الذين أخْفَوْها، والذين قاموا بتدميرها. كان الحكم صادمًا لمشاعر الشعب، فهبّ يعبّر عن سخطه المشروع على أحكام، لم تنصف مظلومًا، ولم تحقق عدالة، ولم تقتصّ للشهداء، بل أطلقت سراح كبارالمجرمين.. ويريد المستشار الزند أن يختم على أفواه أعضاء البرلمان الذين عبروا عن مشاعر الجماهير ورغبتهم فى القصاص العادل، ولو أنهم لم يفعلوا لاعتبرهم الشعب خونة للأمانة التى وضعها فى أعناقهم.. لقد استقوى الزند بالقُضاة، واستعْداهم على البرلمان بحجة الإهانة التى لحقتهم منه، والحقيقة أنه لا يهمه صيانة كرامتهم التى يتمحّك بها، ولا يعبأ باستقلال القضاء وقداسته المزعومة. فليس بهذا الأسلوب الغوغائى يحافظ القضاة على كرامتهم، أو يحقق القضاء استقلاله.. وفى تاريخ الرجل ثلاثة مؤشرات - على الأقل - تؤكد انسجامه التام مع النظام السابق فى محاربة استقلال القضاء وإخضاعه لمشيئة الدكتاتور.. من ذلك: 1- دوره فى تخريب حركة نادى القضاة الوطنية الجريئة سنة 2005 فى المطالبة باستقلال القضاء، التى قادها المستشار زكريا عبد العزيز، حيث ساندته قوى شعبية لا يُستهان بها.. 2- تآمره - مع نظام مبارك - على المستشار زكريا عبد العزيز، لانتزاعه من قيادة نادى القُضاة، وتشويه الحركة، وإغراء فريق من القضاة بالمصالح الشخصية مثل الانتدابات، والبدلات وتعيين أبنائهم المتخرّجين بدرجة مقبول، فى مناصب النيابة، رغم منافاة ذلك للأخلاق والعدالة، ولمبدأ تكافؤ الفرص.. 3- صمته المريب على تزوير الانتخابات فى عهد سيده المخلوع، وعدم دفاعه عن القضاء عندما مسحت السلطة جريمتها فى عباءة القُضاة الذين أشرفوا على الانتخابات المزوّرة .. أين كان الزند عندما سحلت قوات الأمن قُضاةً واتهمتهم زورًا بحمل السلاح وقدمتهم للمحاكمات..؟!، وأين كان عندما حكم فِرعون مصر ثلاثين عامًا بقوانين استثنائية باطشة؟، وأين كانت قداسة القضاء عندما اخترع الدكتاتور محاكم عسكرية لمحاكمة المدنيين، وضرب عرض الحائط بأحكام القضاء الطبيعى فى آلاف القضايا؟، وصار عدم تنفيذ الأحكام القضائية هو شعار الدولة..؟، لقد كان الزند فى قلب الفتنة بين القضاة والمحامين فى قضية طنطا الشهيرة، واليوم يسعى لفتنة أكبر بين السلطتين القضائية والتشريعية.. الفتنة تطل برأسها، والشعب وحده هو الذى يستطيع إخمادها، لا بالصمت ولا بالمقاطعة؛ فالمقاطعة تسهّل على المزوّرين جريمتهم، أما الإصرار والاحتشاد عند صناديق الانتخاب، بأعداد كبيرة لدعم الدكتور محمد مرسى مرشح الشعب والثورة، فهو العمل الوحيد الذى يبطل التزوير ويحقق إرادة الشعب.. ويعيد الأمور إلى نصابها.. إنها المعركة الفاصلة، ولا عذر لوَطنيّ مخلص ذى ضمير أن يتخلّف عنها.. وإلا فالكل سيغْدو مسئولاً عن ضياع الثورة وضياع الأمل! [email protected]