أخي الأستاذ جمال.. سؤالك: ماذا تبقى من عبد الناصر؟! في مقالك بتاريخ الجمعة، 29 سبتمبر 20170 أثار كثيرا من الآلام والأشجان فوق ما أعانيه من متاعب صحية. وهأنذا أحاول أن أفكر معك فيما قلته، وأجبتَ فيه عن شخصية حاكم عسكري ملأ الدنيا، وشغل الناس، وقادهم إلى الهزيمة والبؤس والتخلف المريع! كنت في صباي مولعا بحب الرجل، أحفظ ما يقوله ويردده، وكنت أظنه صادقا، حتى كانت الصاخة، والهزيمة المريرة في يونية 67، وكان لا بد من التساؤل والبحث عن سبب الكارثة التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ المصري، وكان الفراق مع دولة المخابرات كما سماها رفيقه البوق الأشهر، ودولة التعذيب والقهر وقيادة "برقبتي يا ريس" السوقية. لم ينقسم الناس حول الرجل، ولكن الأمة كلها شعرت بالعار والهوان والغضب باستثناء الناصريين وأشباهم الذين صنعهم التنظيم الطليعي والتنظيمات السرية الأخرى. أدركت الأمة أنها عاشت أكذوبة كبرى، ووهما بشعا أسقطهم في قاع عميق من الظلام والمعرة.. وحينئذ عرفوا أنهم كانوا ضحية لنظام كذاب ( أبرز رموزه: هيكل، أحمد سعيد)، وحكومة بوليسية مخابراتية، بينها وبين التفكير السياسي المستقيم بحار ومحيطات، وقدراتها التنفيذية احتفالية دعائية أكثر منها حقيقية إنتاجية، وهو ما انتهي بها إلى الاستدانة ومد اليد إلى الآخرين، والعيش في أزمات متلاحقة على أبواب الجمعيات الاستهلاكية، وعمر أفندي والمصنوعات، وكوبونات الجاز والكستور والدبلان، بينما الطبقة الحاكمة السعيدة ترفل في النعيم والمستورد، وتتجاوز شارع الشواربي إلى العواصم الكبرى! الصراع حول عبد الناصر ليس امتدادا طبيعيا للصراع بين الإسلاميين والعسكريين؛ فالإسلاميون لا يصارعون العسكر لأنهم لا يملكون سلاحا، وإنما يتشبعون برغبة خدمة الوطن، وتطهيره من الفساد، وإقامة العدل، وقبل ذلك وبعده ممارسة حقهم في التعبير عن دينهم وتصورهم في أمن وسلام، وكان يمكنهم أن ينافقوا الاستبداد مثل بعض أصحاب اللحى التايواني ليرتعوا ويلعبوا وينالوا الأمان. ولكن الصراع في حقيقته صراع بين شعب مستعبد، وبين حكم القوة القاهرة التي لا تعترف بالحوار ولا المشاركة، ولا إرادة الناس. وإذا كان الإسلاميون يمثلون الأغلبية بحكم الواقع على الأرض، فإن الأقليات الفكرية والطائفية كانت منحازة بحكم الانتهازية والاستبداد إلى جانب من يملكون القوة القاهرة. وهكذا عاش الناس ومازالوا في ظل النظام الاستبدادي الفاشي الذي أسسه عبد الناصر! ليس صحيحا أن الإخوان– وهم أقدر على الدفاع عن أنفسهم- أغرقوا العقل العربي بكل ما يشوه عبد الناصر ويدينه، حقا كان أو باطلا، ونشروا قصصا وروايات ودراسات ومعالجات فكرية امتدت لفكرة القومية العربية ذاتها التي حاول عبد الناصر أن يدشن بها مشروعه السياسي . لا أدري إن كنت تتذكر أن أول من ضرب مسمارا في نعش الهالة الناصرية المزيفة كان توفيق الحكيم حين أصدر "عودة الوعي" ، ثم مصطفى أمين "سنة أولى سجن" وما بعدها، وجلال الدين الحمامصي "حوار وراء الأسوار"، ونجيب محفوظ "الكرنك" وغيرها، وتوالى ضرب المسامير من كتاب آخرين ليسوا على وفاق مع الإخوان أو التيار الإسلامي أو الإسلام نفسه، فضلا عن "البحث عن الذات" الذي كتبه السادات. وكان جهد الإخوان- كما تابعته- محدودا في هذا السياق، ومنه ما كتبه جابر رزق عن التعذيب، وما أبدعه نجيب الكيلاني يرحمه الله في روايته المؤثرة "رحلة إلى الله" حيث كان شاهد عيان على ما جرى في السجن الحربي، وآخرون ولكنهم كانوا قلة بالقياس إلى ما كتبه غير الإسلاميين. أما روايات الناصريين وسيل كتاباتهم ودراساتهم واتهاماتهم للإخوان وللإسلام بكل نقيصة، وتأليف قصص غير حقيقية عن عصر عبد الناصر، فهو فلسفتهم الدائمة في الكذب والتدليس والتضليل، ألم يكن هيكل وأحمد سعيد صوت الناصرية الكاذب على مدى خمس وستين سنة؟ لقد أثبت الناصريون- إلا قليلا منهم- بعد ثورة شعب مصر العظيمة في يناير، أنهم أعداء للحرية والكرامة والعدل، وقد تبدت انتهازيتهم الرخيصة من خلال كبيرهم-البوق الأكبر- في استدعاء الجيش وضرب الديمقراطية، وإلغاء إرادة الشعب بعد فشلهم الذريع في الانتخابات النزيهة، وعدم حصولهم على أي مقعد إلا بمساعدة الإسلاميين، وللأسف لم يصلوا إلى شيء بعد خيانتهم للأمة. فقط كانوا مجرد أذرع إعلامية تكذب وتضلل وتدلس، فضلا عن أداء دور الكومبارس الذي تفوقت عليه الأصوات الباطلة! لست معك في أن الميراث الذي تخلف عن الصراع بين الشعب والاستبداد ذا طابع عاطفي في أغلب جوانبه، وثأري في جوانب أخرى. إنه صراع عقلي ومنطقي بامتياز، ينتهي يوم أن تكون إرادة الشعب الحر بكل أفراده هي الفيصل والموجه والمقرر. ساعتها لن يكون هناك مكان للناصريين إلا في خدمة المستبدين في أماكن أخرى ، مثلما ذهبوا إلى سفاح دمشق، وباركوا ذبحه لنصف مليون سوري، واعتقال مليون ونصف مليون في أقبية مظلمة، وتهجير خمسة عشر مليونا إلى الشتات والغربة والضياع، ثم عادوا ليشيدوا بالسفاح الذي استقدم الروس والإيرانيين والميليشيات الشيعية من كل حدب وصوب لاحتلال سورية وتقسيمها، وأخيرا استقدم الولاياتالمتحدة الأميركية التي تتحرك على الأرض وتخطط للفصائل الكردية الانفصالية وتدعمها بالسلاح والعتاد وتفريخ العملاء الخونة! يحزنني الحكم على شعوبنا بأنها لا تملك الخبرة السياسية الديمقراطية. مصر سبقت في الخبرة النيابية دولا أوربية، وكان فيها أول مجلس نيابي في الشرق مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر- إذا استبعدنا عصر محمد على والمجالس التي أقامها- وكانت حتى انقلاب عبد الناصر متقدمة في مجال السياسة الديمقراطية، وفيها أحزاب ومثقفون مثل العقاد الذي هدد بتحطيم أكبر رأس تقف ضد إرادة الأمة. إن النظام الاستبدادي الذي أسسه عبد الناصر وجعل مصر في مؤخرة الأمم وتشحذ من أجل الرغيف؛ صنع نخبا خائنة لله ورسوله والمؤمنين. وهي نخب تبيع الأب والأم بتقارير كاذبة من أجل مصالحها الخاصة (تذكر التنظيم الطليعي وغيره)، وهذه النخب موجودة حتى اليوم ترفع قميص عبد الناصر كذبا وزورا لتأكل به حراما وتسمن. ذات يوم وقف أحدهم في احتفالية علمية، وراح يثبت وجوده الخياني بالقول إن الذين يعادون الجيش خونة. ونسي المذكور أن الشعوب لا تعادي جيوشها وتحتاج إليها لتدافع عنها، وتؤمن مصادرها الطبيعية، وتردع أراذل البشر المعتدين على الحدود. كنت عقب الهزيمة مجندا مع مئات الآلاف من بني وطني وسط الخيام والملاجئ والخنادق، وظللت ست سنوات في جيش محترف، يقوده قادة عظام بحق: الشاذلي، الجمسي، أبو غزالة، فهمي، أبو سعدة، ... وغيرهم حتى استرد الشعب بعض كرامته. ولكن الناصري المدلّس يسوغ الاستبداد حتى ينال فضلة منصب أو مكافأة. واسلم لأخيك: