الساعة 12 مساء الخميس بتوقيت القاهرة (31 مايو)، أسدل الستار على 60 عامًا من التاريخ الدستورى والقانونى شبه المتصل لإعلان الطوارئ، فللمرة الأولى ينام المصريون ملء عيونهم، فلا يوقظهم كابوس زوار الفجر، الذى جعل جفونهم لا تلتقى إلا على نوم نافر، وجنوبهم لا تضجع إلا على مضجع قلق، فمنذ ثورة 1952، حيث فرضت حالة الطوارئ بطريقة متقطعة حتى عام 1981، ثم أعقبتها بصورة منتظمة من دون انقطاع حتى نهاية شهر مايو 2012 أى ما يقرب من 60 عامًا من سلب الحريات الشخصية والعامة المنصوص عليها فى الدستور، وتغول للسلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، وإطلاق ليدها فى كل شىء تحت زعم تحقيق الأمن والنظام، وعصف بالتشريعات وإصدار ما يسمى بالأوامر العسكرية، أو أوامر الطوارئ التى تفرض على مخالفيها عقوبات تصل إلى الأشغال الشاقة، حيث تفتقر قوانين الطوارئ إلى الحيدة والاستقلال، وتتوسع فى اختصاصات القضاء العسكرى، وتلجأ إلى تشريعات أخرى لتحويل حالة الطوارئ إلى حالة دائمة بنص القانون من دون الحاجة إلى ذلك، وهو ما حدث فى مصر على مدى تاريخها الحديث. ابتداع الأحكام العرفية لحماية المصالح البريطانية لا نبالغ إذا قلنا إن نظام الطوارئ قد ساد جلَّ فترات التاريخ المصرى الحديث، منذ أن عرفته مصر لأول مرة على يد الإنجليز، إبان احتلالهم لمصر تحت مسمى الأحكام العرفية، وذلك لمواجهة المحاكم الأهلية، التى توفر ضمانات التقاضى للمتقاضين المصريين ويسمح للقضاة المصريين المستقلين بالتعبير عن مشاعرهم الوطنية ضد قوات الاحتلال، ومن هنا فقد وجد البريطانيون ضالتهم لتجاوز النظام القضائى الليبرالى المستوحى من النظام الفرنسى والالتفاف عليه فى اللجوء إلى المحاكم الاستثنائية، وفى التشريع للأحكام العرفية، كما يرى الدكتور محمد نور فرحات الفقيه القانوني، وذلك فضلاً عن الخبرة البريطانية الطويلة فى الهند، حيث أنشأ البريطانيون ما يعرف بمحاكم "الأخطاط" وهى عبارة عن محاكم تتشكل من الأعيان ورجال الإدارة ولا تتقيد بضوابط المحاكمات، التى توجد فى القوانين العادية؛ حيث ركزت هذه المحاكم على المسائل الجنائية بنظر القضايا الصغيرة وإصدار أحكام غير قابلة للطعن، وذكر الفقيه القانونى أنه فى سنة 1912 تم إنشاء مائتين من محاكم الأخطاط، التى تستخدم إجراءات مبسطة وقضاة غير محترفين عادة ما يؤخذون من طبقات الأعيان الريفيين، كما تحرك البريطانيون مرة ثانية ليتحاشوا المحاكم الأهلية فى الأحوال ذات الحساسية المفرطة، وخاصة فى الجرائم التى تشمل القوات العسكرية البريطانية فى مصر، فقبل انقضاء أربع سنوات على وصول القوات البريطانية إلى مصر، اشتكى القنصل العام البريطانى من التأخر، الذى يحدث بانتظام فى المحاكم الوطنية فى تعاملها مع القضايا التى يتهم فيها الوطنيون بجرائم ضد الجنود البريطانيين، ومن ثم كانت النتيجة إنشاء محاكم خاصة لنظر مثل هذه الجرائم، ويعتبر أشهر هذه المحاكم تلك التى حكمت على العديد من أهالى قرية دنشواى بالشنق، وعلى آخرين بالجلد بعد أن تصادموا مع فصائل بريطانية كانت تصطاد الحمام سنة 1906، ووقتها صرح اللورد كرومر مباشرة وعلانية أن إجراءات استثنائية كانت ضرورية لأن الاعتماد على المؤسسات المعتادة للعدالة غير كاف فى بلد تعودت فى نظره على حكومة غير قانونية ومستبدة، بل والأكثر من ذلك أنه لم يكن المحامون المصريون فحسب هم موضع ارتياب البريطانيين، بل كان القضاة المصريون بصفة عامة كثيرًا ما يتهمون بواسطة سلطات الاحتلال بالتعاطف مع المشاعر الوطنية، ففى سنة 1912 بعدما حكمت محكمة مصرية ببراءة المتهمين بالهجوم على مهندس فرنسى، كتب اللورد كتشنر يقول: "يتفق كل ثقات القانون على أن القضية ثابتة تمامًا وعلى نحو مرضى ضد الرجلين المتهمين.. فأحدهما حوكم مرتين لشروعه فى القتل فى السنوات الأربع الأخيرة، إلا أن كليهما أطلق سراحه بواسطة القضاة المصريين.. وهؤلاء القضاة معروفون بأنهم وطنيون، ومن الطبيعى أن نعتبر أن العرق والمشاعر الدينية وحدها هى التى بوسعها أن يكون لها حساب فى استخلاصاتهم". وهكذا لم تكتف سلطات الاحتلال البريطانى بالاعتداء على استقلال القضاء المصرى عن طريق تشجيع إنشاء المحاكم الاستثنائية بل ادخلوا إلى مصر لأول مرة فى تاريخها نظام الطوارئ أو ما كان يعرف وقتها باسم الأحكام العرفية، حيث أعلنت بريطانيا الأحكام العرفية فى مصر وعينت حاكمًا عسكريًا بسلطة طوارئ فى الثانى من نوفمبر عام 1914 خلال الحرب العالمية الأولى بعدما انضمت تركيا فى الحرب العالمية الأولى إلى ألمانيا، وفى ظل تطبيق هذه الأحكام العرفية أُعلنت الحماية البريطانية لمصر فى 18 ديسمبر سنة 1914. __________________________ الطوارئ فى الدساتير المصرية: ومنذ ذلك الوقت تتابع النص على حالة الطوارئ فى الدساتير المصرية. دستور 1923: نصت المادة 45 من دستور سنة 1923 على أن "الملك يعلن الأحكام العرفية، ويجب أن يعرض إعلان الأحكام العرفية فورًا على البرلمان ليقرر استمرارها أو إلغاءها، فإذا وقع هذا الإعلان فى غير دور الانعقاد وجب دعوة البرلمان للاجتماع على وجه السرعة". دستور 1956: جدير بالذكر أن دستور 1956، هو الذى نعت لأول مرة الأحكام العرفية بحالة الطوارئ فنصت مادته 144 على أن "يعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ على الوجه المبين بالقانون، ويجب عرض هذا الإعلان على مجلس الأمة خلال الخمسة عشر يومًا التالية له ليقرر ما يراه فى شأنه، فإن كان مجلس الأمة منحلاً يعرض الأمر على المجلس الجديد فى أول اجتماع له". دستور 1964: نصت المادة 126 من دستور سنة 1964 على أن "يعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ على الوجه المبين فى القانون ويجب عرض هذا الإعلان على مجلس الأمة خلال الثلاثين يومًا التالية له ليقرر ما يراه بشأنه فإن كان مجلس الأمة منحلا عرض الأمر على المجلس الجديد فى أول اجتماع له. دستور 1971: كما نص دستور 1971 فى مادته رقم 148 على أن "يعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ على الوجه المبين فى القانون ويجب عرض هذا الإعلان على مجلس الشعب خلال الخمسة عشر يومًا التالية ليقرر ما يراه بشأنه، وإذا كان مجلس الشعب منحلاً يعرض الأمر على المجلس الجديد فى أول اجتماع له، وفى جميع الأحوال يكون إعلان حالة الطوارئ لمدة محددة ولا يجوز مدها إلا بموافقة مجلس الشعب". _______________________________ حالات إعلان الطوارئ: - بدأت فى عهد الاحتلال الإنجليزى لمصر؛ حيث أعلنت الأحكام العرفية لأول مرة فى نوفمبر 1914 إبان الحرب العالمية الأولى، وقد تم إلغاؤها عام 1922. - أعيد إعلانها إبان الحرب العالمية الثانية فى سبتمبر عام 1939، وتم إلغاؤها فى أكتوبر 1945. - وتكرر إعلانها فى مايو 1948، وألغيت فى أبريل 1950، لكن مع استمرارها جزئيا، وذلك فى المناطق الحدودية مع فلسطين فى محافظتى: سيناء والبحر الأحمر بمناسبة حرب فلسطين عام 1948. - كما أعلنت الأحكام العرفية فى يناير عام 1952 بسبب حريق القاهرة واستمرت تلك الأحكام سارية حتى عام 1956، ثم ألغيت بسبب العدوان الثلاثى على مصر. - ثم أعلنت فى الأول من نوفمبر عام 1956، عقب إعلان الوحدة بين مصر وسوريا، وألغيت عام 1964. - ثم عادت فى 5 يونيه عام 1967 بسبب العدوان الإسرائيلى على مصر، ليتم إنهاؤها فى 15 مايو 1980. - أعلنت حاله الطوارئ فى 6 أكتوبر عام 1981 عقب اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات واستمرت منذ ذلك التاريخ حتى نهاية شهر مايو الماضى. ________________________________ أسباب إعلان حالة الطوارئ: هناك ضوابط لإعلان وتطبيق أحكام حالة الطوارئ، وذلك لما لها من إجراءات صارمة فى تقييد الحريات العامة والخاصة التى كفلها الدستور ووضع لها ضمانات محددة وهى: - وقوع الحرب - قيام حالة تهديد بوقوع حرب. - الكوارث العامة. - حدوث إضرابات داخلية. - انتشار الوباء. والملاحظ أن حالة الطوارئ كانت تعلن قبل عام 1952 بسبب دخول مصر فى حروب مع دول أجنبية، باستثناء إعلانها إثر اندلاع حريق القاهرة فى يناير1952، إلا أنه منذ عام 1981 فرضت حالة الطوارئ بصورة متواصلة لاعتبارات الأمن الداخلى وحدها.