كما كان متوقعا خلال الأيام الماضية ، وبعد دعوة عدد من القوى الوطنية للتظاهر احتجاجا على تمرير البرلمان لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية والمعروفة باسم "اتفاقية تيران وصنافير" ، نزلت المدرعات لمحاصرة الميادين وغلقها ، وخاصة ميدان التحرير ، كما استنفرت قوات الأمن في عموم البلاد ، ونزلت سيارات الشرطة بكثافة والجنود مدججون بالسلاح ، ومطاردة أي مجموعة مهما كان صغر حجمها والقبض على بعضها وتفريق الآخرين ، فضلا عن حملات الاعتقال التي سبقت يوم الجمعة لعشرات من النشطاء من بيوتهم ، ثم خرجت صحف الحكومة صباح السبت لكي تتباهى بعناوين من مثل "فشل الدعوة للتظاهر" ، أو أن الشعب لم يستجب لدعوات التظاهر ، وفي الحقيقة أن الشعب خاف من السلاح ، وأن الشعب حيل بينه وبين التعبير عن رأيه وعن التظاهر ، وأن الميادين أغلقت أمام الشعب بالمدرعات وأن فوهات البنادق الآلية التي كانت مصوبة تجاه أي حركة في الشارع ، وخاصة في وسط القاهرة ، كانت تقول بوضوح أن أي محاولة للتظاهر ستتم مواجهتها بالسلاح . في اعتقادي أن هذا الاستنفار الأمني الواسع وحملات الاعتقال وغلق الميادين بالمدرعات ، تعطي الانطباع الواضح على أن النظام السياسي خائف من غضب الناس ، وأنه مدرك أن مكنون الغضب موجود وهائل ، وأن شعبيته تراجعت أو انعدمت ، ولذلك يريد قهر الصوت المعارض ومنعه من الظهور بأي شكل ، ومن ثم ، فلا يمكن القول بضمير حي أو عقل سياسي أمين أن التظاهر فشل ، وإنما الصحيح أن السلطات الأمنية قمعته ومنعته ، وهذا قطعا بالإضافة إلى استمرار حالة التمزق السياسي بين القوى الوطنية المعارضة للنظام الحالي ، وهو تمزق يساعد كثيرا في إضعاف أي حراك شعبي أو وطني لمواجهة الانحراف بالسلطة أو التفريط في حقوق الوطن . الإرادة الشعبية تظهر عندما يكون السلاح محايدا ، والمدرعات محايدة ، لذلك نجحت الانتفاضة الشعبية في يناير 2011 وأصبحت ثورة شعبية حقيقية أنهت نظام مبارك ، وكانت قيادة الجيش ممثلة في المجلس العسكري أيامها تتباهى بأن الجيش شريك للشعب في ثورته وأنه حمى الثورة ووزعت القوات المسلحة بوستات في الشوارع تحمل الشعار التاريخي "الجيش والشعب إيد واحدة" ، وأيضا في الحراك الشعبي الذي توسع ثم احتشد في 30 يونيه ضد حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي ، كان من الواضح أن "المدرعة" معه وأن الإعلام الرسمي كان يقول علنا وبوضوح أن من ينزل ستتم حمايته ، الوضع اليوم مختلف ، من ينزل تنتظره فوهات البنادق الآلية وإن أفلت فالسجون والأحكام القاسية ، فضلا عن غلق الميادين بالمدرعات ومنع أي شخص من الاقتراب أو الدخول بأي صورة من الصور . التظاهر السلمي حق مشروع للشعب ، والتظاهر السلمي إحدى الوسائل الحضارية لمعرفة الإرادة الشعبية ، والتظاهر السلمي إحدى أهم أدوات السياسة لتصريف الغضب بعيدا عن العنف ، وقد لجأ إلى تلك الآلية الفريق أول عبد الفتاح السيسي نفسه ، عندما دعا الشعب في 2013 للتظاهر للإبانة عن إرادته الشعبية أو ما أسماه تفويضه ، وبعد أن حصل على مبتغاه ، أغلق الباب أو أطاح بالسلم ، ومنع التظاهر تماما ، وجعله محرما على الشعب ، وتعامل بعنف بالغ مع أي دعوة للتظاهر أيا كان صاحبها أو التيار الذي يدعو إليها ، وأخرج حزمة من القوانين والإجراءات التي تجعل من التظاهر سلوك أقرب للانتحار ، وليس مجرد تعبير سلمي آمن عن الرأي والموقف السياسي المخالف . لقد احتاج السيسي إلى دعوة الناس للتظاهر في الشوارع والميادين لاستجلاء الإرادة الشعبية ، رغم أنه كان يملك الجيش والشرطة والإعلام والأجهزة الأمنية بالكامل والسلطة بحذافيرها ، وأما هؤلاء الذين دعوا للتظاهر أمس ، فلا يملكون سلطة ولا جيشا ولا أجهزة أمنية ولا إعلاما إلا صفحات الفيس بوك ، لا يملكون إلا حناجرهم وضميرهم الوطني الحي ، فلماذا كل هذا الخوف منهم ، ولماذا تتصدى لهم أو تروعهم بالمدرعات والأسلحة ، هل الحناجر تواجه بالمدرعات ، وهل الهتاف يواجه بالأسلحة ، وهل هؤلاء الشباب الذين يريدون أن يهتفوا في الميادين : مصرية مصرية ، هل يخيفونك إلى هذا الحد ، لدرجة أنك لا تريد أن تسمع هتافهم أو أن يسمعه الناس . الصور التي تناقلتها وكالات الأنباء والصحف العالمية لبعض الشوارع والميادين أمس ، رغم خلوها من المتظاهرين ، كانت كافية لإعطاء الرسالة الواضحة ، بأن مصر ما زالت قلقة ، والغضب كبير ، وثقة النظام في شرعيته مهتزة ، وأن حراك يناير وأشواقه ما زال حيا في الضمير المصري ، وأن الدولة مرتبكة ، وأن مصر ما زالت تعيش معالم مرحلة انتقالية يغيب فيها اليقين بالمستقبل القريب ، فكل شيء جائز ، وكل احتمال قائم .