يثبت محمد حسنين هيكل كل يوم أنه أصبح مغيَّبًا تمامًا عن الواقع ومسار التاريخ، وتقريبًا لم يعد الرجل يقرأ أو حتى يشاهد وسائل الإعلام العالمية برؤية المحلل أو المراقب، وفى الحوار الذى أجرته معه "الأهرام" مؤخرًا أكد مرة أخرى أنه مغيب، ويعيش الآن على جاذبية تاريخ مضى، واسم لم يعد له أى حضور فى عالم اليوم، فى حواره مع الأهرام أراد هيكل أن يحرض الرأى العام المصرى والمؤسسة العسكرية والأمنية على التيار الإسلامى، وقال بسذاجة وطفولية سياسية مدهشة: كيف نتصور أن يتولى مثلاً شخصية إسلامية من الإخوان أو غيرهم وزارة الداخلية وبين الإسلاميين وبين هذه الوزارة ثأر؟!، وهى محاولة رخيصة للوقيعة والتحريض غير الأخلاقى، ولأن هيكل جاهل جهلاً شديدًا بالواقع السياسى الحالى وتوابع الربيع العربى، فهو لا يعرف أن وزير داخلية تونس الحالى هو أحد أقطاب التيار الإسلامى التونسى، وأحد مؤسسى حزب النهضة، وحركة النهضة قبل أن تكون حزبًا، وأن المهندس على العريض وزير الداخلية التونسى الحالى كان من أشهر المعتقلين فى عهد زين العابدين بن على، وخضع لأبشع ألوان التعذيب فى أقبية وزارة الداخلية، وحكموا عليه بالسجن عشر سنوات، ثم حكموا عليه بالإعدام، ثم خففوا الحكم، ثم حكموا عليه فى محكمة عسكرية بخمسة عشر عامًا سجنًا، كما قامت أجهزة الأمن بمحاولة إذلاله بنشر شائعات مفبركة عن انحرافات جنسية مزعومة، وهو سجين، وبعد كل هذا المشوار المروِّع من المعاناة والتعذيب، خرج الرجل من السجن؛ ليصبح خلال أشهر وزير داخلية تونس الحرة الديمقراطية، وقد عدت من هناك قبل أيام، وأنا أسمع إجماعًا على تحسُّن الحالة الأمنية بصورة ملحوظة، رغم عمق أزمة الانفلات الأمنى بعد الثورة، وهناك إجماع على نجاح على العريض فى إدارة شؤون الوزارة مع قياداتها وبالتعاون والتنسيق الكامل مع دعم القوات المسلحة التونسية، بل إن هناك عملية مشهورة حدثت خلال الأسابيع الماضية، عندما تم ضبط خلية مسلحة لشباب إسلامى متشدد، كانت تحمل سلاحًا، ثم هربت إلى إحدى الغابات الجنوبية، وتم التفاوض معهم على الاستسلام بضمانات المحاكمة العادلة، وعدم تعرُّضهم لمحاكمات استثنائية، فلما رفضوا وأطلقوا النار وقع الاشتباك، فقُتل اثنان منهم، وأُلقى القبض على الثالث، وقد تعرض على العريض لنقد شديد من قِبَل بعض الأحزاب التى رأت أن استخدام السلاح كان ينبغى أن يتأخر أكثر من ذلك لاستنفاد الجهد فى الإقناع وفرض الاستسلام. هيكل لا يعرف كل ذلك ولا يتابعه ولا يفهمه؛ لأنه مغيب حقيقة عن مجريات الأحداث وخبرات الدول والشعوب الآن بعد الربيع العربى وحتى قبله، بل إن هيكل على مستوى الوعى السياسى بالحراك الشعبى فى مصر وغيرها مازال أسير معادلات الستينيات والحقبة الناصرية، حتى أنه بعد أن انتصرت ثورة الشعب المصرى فى يناير، ووُضعت خارطة طريق لانتقال السلطة إلى المدنيين، رفض هيكل ذلك، وطالب بأن يتولى الجيش حكم البلاد لثلاث سنوات على الأقل، ودعا إلى تنصيب المشير حسين طنطاوى رئيسًا للجمهورية، ونشرت الأهرام أيضًا ذلك فى حينه، هو لا يتصور أبدًا أن الشعب المصرى مؤهل لأن يحكم نفسه، أو أن يعيش بكرامة وحرية وديمقراطية حقيقية، أضفْ إلى ذلك أن هيكل ينتمى عائليًا إلى الفلول، وأنا أجزم بأنه يدعم معنويًا على الأقل الفريق أحمد شفيق؛ لأن هيكل مدرك تمامًا أن "أسرته" تنتمى إلى اللوبى الذى يقاتل المعركة الأخيرة لعودة نظام مبارك، ونجله شريك اقتصادى لعدد كبير من رجالات مبارك، فى مقدمتهم نجلا الطاغية جمال وعلاء المسجونان حاليًا، ولا أعتقد أن هيكل عاش ثلاثين عامًا، وهو غير مدرك لطبيعة عمل نجله وعلاقاته واستثماراته وشركائه. الأهرام استدعت هيكل من "خلوته" فى الأيام الأخيرة قبل الانتخابات كجزء من حملتها لتسويق شفيق والتخويف من الإسلاميين، ومحاولة تشويههم وإبعاد الناخبين عن اختيارهم، بعد أن وظفت مركز دراساتها الذى يديره الفلول أعضاء لجنة سياسات جمال مبارك لنشر الاستطلاعات المضروبة للترويج لشفيق، وكل هذه "الحفريات" السياسية مكانها المتاحف وذاكرة سنوات القمع والاستبداد، ولم يعد لها مكان فى واقع مصر الثورة أو مستقبلها.