الجرس وعي يخطف عقولنا من شرودها وينقلها من غياهب الماضي أو متاهات المستقبل إلى حلبة اللحظة لنقف على البرزخ الفاصل بين أزمنة نفثت أعمارنا في أثيرها وأحداث قد لا يقع معظمها كما نتوقع أو نكره أو نحب، فنتنفس الهواء المحيط ونرى الوقائع بتفاصيلها والجسوم بأجرامها، ويتحول الهلامي في عقولنا إلى مادة نراها ونلمسها ووقائع نعايشها وآلام نكابدها. لكن اللحظة الوليدة بصرخاتها المذعورة لا تلبث أن تلفظ أنفاسها لتعود أسراب أفكارنا في التحليق بين أيدينا ومن خلفنا وكأننا نصر على رفض معاقرة الحدث حتى تكتمل معالمه في عقولنا التي لا تحفل بالقطع الصغيرة من الأحداث لأنها تعجز عن التعامل مع الرمز وتفشل في تفسير الأحداث غير مكتملة النمو. الجرس طفل يشد ثيابنا ليمنع طائر الفكر من التحليق في غيمات الماضي فيفسد صفاء اللحظة ومن التقدم نحو غياهب المستقبل فيطفئ شعلة الفعل. لكن الأجراس تتلون بلون ثقافاتها كما تتلون بلون تفاصيلها. فالجرس الذي يحمل الهموم ويقطع شريط الأحلام الدافئة هو نفسه الجرس الذي ينقذنا من كوابيس الليل وغياهب الموتة الصغرى. وفي ثقافتنا العربية يتفق الفئران على تعليق الجرس في رقبة القط، فيحمل الجرس عدائية الملابسة ومن ثم تختلف الفئران المذعورة على من يحمل نرجسية الجرأة ليتقدم نحو رأس القط المكدسة بالقواطع والطواحين. هكذا يحملنا الجرس من رعب إلى تآمر إلى يأس في جدلية عقيمة تبدأ من حيث تنتهي. لكن الجرس في الثقافة الغربية يحمل نبوءة الخلاص من العمى، والقفز فوق الجفون المسدلة فوق محاجر لم تر النور يوما. ففيها يتقدم الفرس الصديق ليقود الفرس الأعمى بجرس يتحرك يمنة ويسرة فوق أيكة مترعة بالمرعى والكلأ، فيوزع نور الشمس بين رأسين وأربعة حواجب. الجرس لدينا هو الجرس لديهم لكن فراشات التوجس والعدائية والتحفز تطير في بلادنا بجناح واحد مهيض لا تلبث أن تسقط في فخ الحذر والتوجس والقعود، أما هناك في بلاد الأبواب المفتوحة على مصاريعها والتي لا تخفي وراءها مكبوتات الأنانية والرغبة في التفرد والاستحواذ والنبذ، يدخل الهواء الحر من كافة النوافذ ويمنح مساحة من الرؤية تبدد سحابات الريبة وستائر التجاهل والأنانية. لهذا يحملهم الجرس إلى بيوت العبادة ويحملنا الجرس إلى الاختباء تحت أقرب طاولة. والجرس في بلادنا صوت عدائي تحمله الحناجر المعارضة وتحمله الريح العاتية ويختبئ في معاطفه المطر، والسعيد فينا من أمده الركض بسقف أو جدار ليحول بينه وبين العري أمام مرآة النهار. والقوي فينا من كتم غيظه أو أنفاس غيره ليتخلص بأي ثمن من جرس يوقظ الوعي وينبه إلى مطبات قادمة أو يحذر من السير في الاتجاه المعاكس. في بلادنا نكره الأجراس كراهيتنا لحياة نفشل في إدارتها كما ينبغي وعمر لا ندري ما نفعل به وطريق نقف حائرين في وسطه لا نملك التقدم نحو الأفق أو العودة إلى ربوعنا المتخمة بالكسل والبلادة. نعشق الحزن وجلد الذات والبكاء على ماض لم نحيه كما ينبغي والتفكير في مستقبل لا نعد له كما يجب عدته. فنحمل الحياة في دلوين مثقوبين على أكتافنا العارية ونفقد عذريتنا وماء طهرنا على طريق الحياة الطويل لنعود في نهاية رحلة لم نخطط لها كما ينبغي مفلسين من الذكريات الحلوة أو الآمال المورقة. لهذا نكره الأجراس التي تدق طبول الرعب في آفاقنا المحدودة وسنواتنا المعدودة فوق كرة تلتهب من تحتنا ليلا ونهارا، ونكره أن نصيخ السمع أو نتدبر القول أو ننصت إلى أجراس التاريخ التي تدق في آذان واقعنا المرعب ومستقبلنا المخوف ونضع وسائد التجاهل والنبذ والعدائية تجاه كل الأصوات التي تحذرنا من شر قد اقترب ومن فخ نصبه التاريخ تحت أقدامنا اللاهية. فهل تتبدل نظرتنا الشرقية الغائصة في مستنقع الوهم نحو الأجراس لنميز بين أجراس النفير وأجراس الوعي؟ يقول ايرنست همنجواي: "لا تسل لمن تدق الأجراس، لأنها تطرق أذنيك أنت." أديب مصري مقيم بالإمارات [email protected]