ظل النظام السياسى الحاكم فى مصر يستخدم "البلطجية" فى دعم صراعه السياسى مع المعارضة بكل أطيافها فى الشارع كما كان يحدث بصفة نمطية ومتكررة فى الانتخابات النيابية، غير أن خطورة ظاهرة الاستعانة بالبلطجية فى قمع الاحتجاجات السياسية تجلت بوضوح كافٍ فى موقعتى الجمل الشهيرتين، موقعة الجمل الأولى فى أواخر حكم مبارك، وموقعة الجمل الثانية، المعروفة بمذبحة العباسية، وهى المذبحة التى سبقت أحداث الاشتباكات التى جرت الجمعة الماضية أمام وزارة الدفاع، وكانت السبب المباشر فى تهييجها واحتقان النفوس فيها، وفى عالم الإنترنت وكاميرات المحمول والتقنية المتفوقة لم يعد بإمكان أحد إخفاء الحقيقة، وهكذا رأى الملايين مشاهد حية للعلاقات الوثيقة بين مؤسسات أمنية رسمية وبين البلطجية الذين تحولوا إلى ما يشبه "مؤسسة" موازية، وكيف أن الدعم اللوجستى بالطعام والسلاح وحتى المخدرات يتم تقديمه للبلطجية من مراكز شرطة ومؤسسات خدمية تابعة لمؤسسات سيادية وتنسيق المسؤوليات فى "المواجهات" بحيث تنحسب "المؤسسة الرسمية" من مواقع بعينها لتخليها فى توقيتات متفق عليها "لمؤسسة البلطجة" لتقوم بمهمتها التى يجرمها القانون من قتل وذبح وسحل واعتداء على المنشآت وبث الرعب فى قلوب الأهالى والمستشفيات وغيرها، ثم الانسحاب بعد أداء المهمة دون أن يتم توقيف أى شخص أو معرفة ما الذى جرى بالضبط، هذه اللعبة المتكررة، وخطورة الاستعانة المتكررة من قبل مؤسسات رسمية فى الدولة منوط بها حفظ الأمن وتطبيق القانون بالبلطجية لحسم مواقف سياسية مع قوى معارضة له أبعاد متنوعة تمثل تعزيزًا لحالة من الفوضى الأمنية والاجتماعية والاقتصادية الشاملة، فالبلطجة ظاهرة متصلة أساسًا بالأعمال الخارجة على القانون، وفى مقدمتها تجارة المخدرات وبطبيعة الحال فإن أحد بدهيات التنسيق مع البلطجية أن يكون هناك مستوى من الثقة وعلاقات النفع المتبادلة بين الطرفين، وهو ما يعنى تقديم مؤسسات رسمية حماية بصور مختلفة لتجارة المخدرات وغض النظر عن ممارسات إجرامية فى هذا المجال أو تقنين عمليات الضبط والملاحقة بحيث لا تطال متعهدى "مؤسسة البلطجة" لأن الطرفين فى النهاية فى حاجة لخدمات بعضهم البعض، المؤسسة الأمنية الرسمية ومؤسسة البلطجة، وهناك خطوط حمراء لكل طرف وحدود لتغول أى طرف على "مصالح" الطرف الآخر ونفوذه، الأمر نفسه يمكن تعديته إلى مجالات تمدد البلطجة فى فرض الإتاوات والسيطرة على وسائل مواصلات شعبية أو الاقتصاد الخفى مثل التجارة غير المقننة فى الشوارع والميادين وغيرها، وهى التى تمثل أوضح صورة للفوضى الاجتماعية التى يختنق الناس من تغولها وعدم القدرة على إنهائها، لأن متعهدى هذه الفوضى هم أنفسهم متعهدو مقاولات البلطجة التى تحتاج إليها المؤسسة الرسمية، وبالتالى تكون المؤسسة الرسمية غير مخولة أو راغبة فى تفكيك هذه الفوضى وإزالتها لأن ذلك يعنى صدامًا مع "مؤسسة البلطجة" الراعية لهذا الانفلات، وهذا الصدام يعنى خسارة قاعدة الثقة بين الطرفين، وهو ما لا يريده الطرفان، لأنهما يدركان أنهما فى حاجة لبعضهما البعض فى مفاجآت محتملة قادمة، ويمكن أن تقيس على ذلك تداخلات متشعبة فى علاقة المؤسسة الأمنية الرسمية بمؤسسة البلطجة ومتعهديها، والوطن والناس والمجتمع المصرى هو الذى يدفع ثمن هذه العلاقة الخطيرة والتى يصعب إخضاعها للقضاء، لأن جهات الضبط هى ذاتها أحد أطراف المعادلة أو العلاقة، بل يمكن القول بأن زيادة علانية تورط المؤسسة الأمنية الرسمية ومؤسسات سيادية أخرى فى إحياء تلك العلاقة وترسيخها يعود إلى اختفاء القوة السياسية المنظمة التى كانت تمثل وسيطًا جيدًا فى تنسيق تلك العلاقة، وهى الحزب الوطنى الحاكم، مما اضطر المؤسسة الرسمية إلى التعامل بشكل مباشر مع متعهدى البلطجة، وإن كان بعض رجال الأعمال الفلول وأصحاب المصالح الذين تضرروا من الثورة ما زالوا قادرين ومستعدين لأداء جزء من هذا الدور. وستظل تلك العلاقة الخطرة قائمة، وستظل مؤسسة البلطجة ومتعهدوها نافذين فى جذر المجتمع وخارج إطار القانون، وسيظل الوطن كله يدفع ثمن هذا الانفلات والفوضى والاستباحة طالما أن "السلطة" ليست بيد الشعب، وطالما أن الديمقراطية لم تتحقق بعد، وطالما أن "النظام القديم" ما زال مهيمنًا على مفاتيح القرار فى الدولة، وطالما أن المؤسسة الأمنية ما زالت خارج إطار الرقابة التشريعية الصارمة، وما زالت غير قابلة لإعادة الهيكلة أو الخضوع المطلق لسيادة القانون. [email protected]