جاء أخوة يوسف أباهم عشاءً يبكون " قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ "يوسف،17. فكان ردُّ نبيِّ الله ( يعقوب ) علي تلك المقولة الكاذبة التي ادّعاها بنوه - بعد ما فعلوا فعلتهم بيوسف وألقوه في غيابة الجبّ ! - " بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ " يوسف،18. والمتدبّر للآية الأخيرة، يجد أنها تقّدم دروسا في تربية النفس وضبطها ، وفي حكمة التعامل مع الأبناء ، وفي حسن الثقة بالله والتوكل عليه.
أولا : تربية النفس وضبطها :
فنبيّ الله يعقوب – عليه السلام – رغم فقده ل ( يوسف ) وهو أحبُّ أبنائه إليه ، إلا أنه استعان بالله ، وضبط نفسه وحملها علي الصبر الجميل ، الذي لا شكوي معه ولا جزع .. ولما اشتدّ به المصاب بفقد ابنه الثاني ، لم يفقد صوابه ، ولم يغب رشده ، وظل مستمسكاً بصبره الجميل ، و" قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ"يوسف،83 .
إنّ من أخلاق الكرام – وقدوتهم الأنبياء – إذا اشتدّ بهم الهمّ ، وأحاط بهم الكرب ، يتذرّعون بالصبر الجميل الذي لا شكوي معه إلا من الله ، كما بثّ نبي الله ( يعقوب ) – عليه السلام – شكواه إلي الله " قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ "يوسف،86 .
وإذا اعترتك بلية فاصبر لها ** صبر الكريم فإنه بك أكرم وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ** تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم!
ثانيا : حكمة التعامل مع الأبناء:
لقد كان نبيّ الله يعقوب ( عليه السلام ) في قمة الحكمة مع أبنائه ، فرغم فداحة المصاب بفقد ولديْه ، إلا أنّه ظل رابط الجأش ، فما خرج عن حلمه ، ولا فقد شعوره ، ولا نهر أبناءه ؛ لأنّه لو فعل ونفر منهم ، أوهجرهم لخسرهم جميعا !
إنّ من أولي الناس بالرحمة والشفقة ، والتعامل معهم بالحكمة ، هم الأبناء ، وما أجمل نصيحة ( الأحنف بن قيس ) ل( معاوية ) في شأن الأبناء : { هم ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا ونحن لهم أرض ذليلة وسماء ظليلة وبهم نصول إلى كل جليلة ، فإن غضبوا يا أمير المؤمنين فأرضهم ، وإن طلبوا فأعطهم ، وإن غضبوا فأرضهم ، يمنحوك ودهم ، ويحبّوك جهدهم ، ولا تكن عليهم ثقيلاً فيتمنّوا موتك ، ويكرهوا قربك ويملّوا حياتك }.
ثالثا : حسن الثقة بالله والتوكل عليه :
إنّ نبيّ الله يعقوب – عليه السلام – مع شدّة مصابه بفقد ولديْه - حتي ابيضّت عيناه من الحزن – لم يهنْ عزمه ، ولم تضعفْ ثقته في الله بأن يعيد إليه مافقد " فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ "يوسف،83
ورغم هذا المدى الطويل من سنين الفراق التي تقطع الرجاء من حياة ( يوسف ) فضلاً على عودته إلى أبيه ، إلا أن ( يعقوب ) - مع صبره الجميل - ، لم ينقطع في الله رجاؤه ، ولا خبا في الله أمله ".. عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" وقد كان .. ، إنّ الصبر الجميل – مع الحركة والبحث - أعقب الخير الجزيل ، وحقّق لنبيّ الله ( يعقوب ) ما كان يؤمّل!
إنّ نبيّ الله ( يعقوب ) – عليه السلام – لاتصاله الوثيق بالله ، وشعوره العميق بمعية الله ورحمته ، كان يعلم من الله مالا يعلمه أولاده !
وكذلك الكرام – من الناس - الذين تخلّقوا بأخلاق الأنبياء ، يروْن ما لا يراه الناظرون ، ويدركون من المقاصد العالية ما لا يدركه القاصرون ..
إنّها بصيرة المؤمنين المستمدة من الثقة المطلقة في الله – عزّ وجلّ - الذي بيده ملكوت كل شيء ، والذي لا يكشف الضرّ غيره ، ولا يزيح الهمّ سواه .. " وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ "الأنعام،18،17.
إنّ الكرام الصابرين يوقنون بأنّ مع الليل فجراً ، وأنّ مع العسر يسراً ، وأنّ مع الصبر نصراً ، وأنّه إذا انتهت كلمة البشر ، فما انتهت كلمة الله ، وإذا غُلقت الأبواب فلن يّغلق بابُ السماء ، وإذا نفدت الأسباب فالأمل في ربِّ الأسباب ، وإذا انقطعت الحبال فإلي حبل الله القويّ المتين !
واشدُدْ يَدْيكَ بحَبلِ الله مُعتَصِماً ** فإنَّهُ الرُّكْنُ إنْ خانَتْكَ أركانُ مَنْ يَتَّقِ الله يُحْمَدُ في عَواقِبِه ** وَيكفِهِ شَرَّ مَنْ عزُّوا ومَنْ هانُوا