مش عزبة أبوه! ..... ولا ينبغى أن يكون البلد (عزبة) للحاكم - سلطانًا أو رئيسًا، أو ملكًا، أو أميرًا أو....- فتكون التفاتة فخامته إلهامًا، وإشارة إصبعه أمرًا نافذًا، ونظرته توجيهًا، وضحكته إبداعًا، وتكشيرته سجنًا وتعذيبًا، وهندامه قمة الشياكة، وكركعته يوم عيد، وصوته (مزيكة)، وشخيره سيمفونية، ولا يجوز لمن حوله من الحشاكلية والمنافقين والهوامين أن يقنعوه بهذا، على طريقة الرجل الذى سأله الرئيس عن اسم آخر أغنية لأم كلثوم فقال له فى عبودية منافقة: أغنيتها الجديدة روعة يا باشا.. اسمها: سيادتك عمرى؛ بدل: "انت عمرى"! لا يجوز أن يكون افتتاح دورة مياه عمومية إنجازًا عبقريًّا تم بتوجيهات سامية من حضرته، ولا رصف شارع إبداعًا ملكيًّا ومكرُمة من جلالته، ولا صرف المعاش تفضّلاً رئاسيًّا من فخامته، ولا قضاء الحوائج على الكورنيش يدًا بيضاء لسموّه! لا يجوز أن يكون العفو عن السجين، ولا تحرير المواطن، ولا إعزازه فى الداخل والخارج، ولا البحث عن راحته، ولا توفير حقوقه كاملة مِنَّةً منه، بل إن خدمة الصغير والكبير، والغِنى والفقير، والهاجع والناجع (فرض عين) عليه إن قَبِلَ، وإلا فليرحلْ غير مأسوف عليه، هذا فى النظم التى تحترم نفسها، وتحمل مسؤوليتها، وتعرف حق مواطنيها، ولا تشترى وهم رضاهم بالقمع، والمخادعة الإعلامية، والكذب الرسمى المفضوح! قرأت للصديق خفيف الدم الأستاذ محمد خضر الشريف طُرفة ضاحكة عن النص المكتوب فى آخر صفحة من جواز السفر: ففى الجواز الأمريكى: "حامل هذا الجواز تحت حماية الولاياتالمتحدةالأمريكية فوق أى أرض وتحت أى سماء"، وفى البريطانى كتب: "ستدافع المملكة المتحدة عن حامل هذا الجواز حتى آخر جندى على أراضيها"، وأما الكندى ففيه: "نحرك أسطولنا من أجلك"، أما جواز السفر المصرى فمكتوب فى آخر صفحاته: "عند فقدانك هذا الجواز تدفع غرامة مالية"! وآه لو سُرق الجواز منك أيها المصرى، أو ضاع، أو مزقه ابنك الصغير، أو أسقطت زوجتك عليه خطأً كوب شاى.. يا ويلك ويا سواد ليلك! لا يجوز أن تُطلَق يد رئيس دولة - أى دولة - فى البلد يتبوأ منها حيث يشاء، ويتحكم فيها كيف يشاء، ويغترف من خيراتها كما يشاء، بل يجب أن تكون أموره واضحة، مكشوفة، محكومة بقوانين لا يستطيع تجاوزها، ولا خرقها، ولا التحايل عليها؛ فالرئاسة مَغرم لا مغنم، وهَمٌّ لا امتياز، ونُصب وعناءٌ لا راحة واسترخاء. ولا يجوز أن تكون كلمته شيئًا مقدسًا لا يقبل النقد ولا النقض، بل يجب شرعًا ودستورًا وحكمةً أن يستشير، ويراجع، ويتأنى، ويختار الأصوب، ويصدر عن رؤية شُورية جماعية، تضمن الصواب، وتجنّبه والبلد الانزلاق، أو السقوط، أو التهاوى الكامل؛ فهذا أساس من أسس الحكم؛ إذا أردنا دولة متحضرة عادلة مطمئنًا أهلُها، مستقرًّا أمرُها! إن محمدًا، صلى الله عليه وسلم، ما كان طاغوتًا مستبدًّا، ولا ملكًا متعجرفًا، ولا حاكمًا بأمره، بل هو الذى شرع للمسلمين "وشاوِرْهم فى الأمرِ"، "أشِيروا علىَّ أيها الناس"؛ فكانت ثمرتها ما نطق به سيدى المِقداد بن عمرو بمنتهى الوعى والحب والنصرة: "امضِ بنا يا رسولَ اللهِ لما أمرك الله، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: "اذهبْ أنت وربُّك فقاتِلا إنا هاهنا قاعدون"، ولكن نقول: اذهبْ أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون"، وكان ثمرتها ما قاله سيدى سعد بن معاذ - رضى الله عنه - : "امضِ بنا يا رسول الله؛ فواللهِ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخُضناه معك، إنا لصُدُقٌ فى القتال، صُبُرٌ فى الحرب، ولعل اللهَ يُريك منا ما تقرُّ به عينُك"! لست محتاجًا لأحشد الأدلة على فرضية الشورى مبدأً وسلوكًا وتطبيقًا، وحسبك أن تقرأ ما قاله سيدى أبو هريرة - رضى الله عنه - : "ما رأيت أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم"، وما قاله سيدى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فى "البخارى": "مَن بايع أميرًا عن غير مشورة من المسلمين فلا بيعة له، ولا بيعة للذى بايعه"! لذلك لا ينبغى أن تكون مجالس الأمة (أيًّا كان شكلها) هياكل شكلية، ومجالس ورقية، ووظائف للمحاسيب، وامتيازًا للألاديش، بل تكون للنظر والتشاور، والتعمق والتقرير، ويجب أن يستمع لها الرئيس (الزعيم/ الأمير/ الملك...إلخ)، ويأخذ برأيها النافذ، ولا تكون مجرد هياكل ديكورية، ينام أعضاؤها فى الجلسات، وينالون الامتيازات، ويبصمون على القرارات (إجماع/ موافقة)، والقرار قرار فرد، والرأى رأى فسل! وقد تعلمنا من ميراثنا النبوى المنير أنه ما خاب مَن استشار، وما ندم مَن استخار، وأن رأى الجماعة خير من رأى الفرد؛ خصوصًا إذا كانوا من أهل النظر والاقتدار والاختصاص. وتعلمنا أنه - بالشورى - لن يجتمع المسلمون على ضلالة، فإذا رأيت مجلسًا للأمة (شعب أو شورى أو نواب أو أمة) يحل حرامًا، أو يقرر فسادًا، أو يمُرِّر ظلمًا، أو ينصر باطلاً، فتأكد أنه لم يصدر عن إجماع ولا شورى ولا رضًا، بل صدر بتزوير وتمرير وتضليل، عن رأى فرد مستبد لص، لا عن رأى جماعة شُورية أو ديمقراطية معتبرة! إن فكرة أن يكون الرئيس هو كل شىء هى فكرة دكتاتورية تدمر الدولة، وترجع بها للوراء قرونًا.. وإن إطلاق يده فى مقدَّراته، بحيث يمكنه أن يدخلها فى حرب، أو يصالح عدوها، أو يضرب بعض أهلها وشرائحها ببعض، أو يرفع نخبة مقربة ويحرم غيرها، أو ينتهبها ويصادرها لصالح نفسه، أو يعتبرها مغنمًا يحكمه كيف يشاء، أو يورثها، أو يقطِّعها... جريمة رأيناها رأْى العين فى كل الدول المتخلفة، المظلوم أهلُها، والظالم حكامُها! وإن إطلاق يد جنابه (ليفصِّل) دستورًا على مقاس جبروته وأنانيته وخيانته، يخالف فيه دستور الأمة الذى انتُخِب على أساسه، ودينها الذى تَدين به، لَعارٌ "يستمتع" به حكام العالم الثالث عشر، ولا يعرفه رؤساء أنظمة تحترم نفسها، وتعرف حق شعوبها. رحمتك بنا وببلادنا يا قيوم، يا صمد، يا رب العالمين. [email protected]