عام 1941م كانت جماعة الإخوان شبه محظورة فى عهد حكومة النحاس باشا (الوفد)، وتقدم الشيخ «حسن البنا» مؤسس الجماعة - يرحمه الله - للترشح على مقعد فى البرلمان، وكان المرشح الإخوانى الوحيد، لكن ترشحه أصاب سلطات الاحتلال الإنجليزى بالرعب، فضغطت على النحاس باشا للتدخل لسحب ترشيح الشيخ «البنا»، وبالفعل ألح النحاس فى طلب سحب الترشح، فاستجاب الإمام «البنا» بعد موافقة الهيئة التأسيسية، قائلاً للنحاس: لقد رأى الإخوان توفير جهود المصريين ودمائهم للمحتل بدلاً من إهدارها فى الشقاق بينهم (وسائل التربية، د. على عبد الحليم محمود). لم يكن الإخوان يومها يسيطرون على الحياة السياسية فى مصر، بل كانت مقراتهم مغلقة وصحيفتهم معطلة.. أسوق هذه الواقعة؛ لأسأل الذين يطالبون الإخوان بالانسحاب من سباق الترشح على رئاسة مصر: هل كان الإخوان يومها «يكوشون» على كل شىء فى مصر أم كانوا جماعة مضطهدة؟ إذاً لماذا تم منع الشيخ «البنا»، وهو مرشح وحيد من خوض انتخابات البرلمان؟.. الإجابة تكمن فى خبايا مخطط قديم متجدد خلاصته حصار الإخوان ومنعهم بكل السبل من الاقتراب من سلطة الحكم، والإبقاء عليهم إما جماعة محظورة مطاردة مسجونة مقتولة، أو جماعة محاصرة فى أضيق فضاءات الساحة السياسية لمنعهم من الاقتراب من الشعب ولمنعهم من تطبيق مشروعهم الإسلامى الساعى إلى نهضة الأمة، وتحقيق استقلالها الحقيقى. وقد سارت الحكومات المتعاقبة على نفس السياسة دون تغيير رغم تغير نظام الحكم من ملكى إلى جمهورى؛ لأن راعى مخطط القضاء على الإخوان هو الاستعمار، ومنفذه هم سماسرته من الحكام المتعاقبين من عهد «فاروق» إلى عهد «مبارك».. ومن يرصد الحملات الأمنية والدعائية المكثفة ضد الإخوان منذ عهد رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادى (عام 1949م)، الذى قتلت حكومته الشيخ «حسن البنا» حتى عهد «مبارك» يكتشف ذلك بسهولة.. لقد شنت تلك الأنظمة المتعاقبة من الحملات الأمنية، وارتكبت بحقهم انتهاكات يشيب لها الولدان، وشنت من الحملات الدعائية لتشويههم أضعاف الحملات الموجهة ضد الكيان الصهيونى، وكل ذلك كان بهدف إنهاء وجودهم حتى لا يقتربوا من السلطة أو حكم مصر، لكن ذلك لم يُجدِ، وذهب كل الطغاة إلى غير رجعة لكن بقى مخطط عزل الإخوان سياسياً ساخناً فى أيدى بقية السماسرة من تلامذة الطغاة وغلاة العلمانيين بكل درجاتهم. واليوم.. وبعد نجاح ثورة 25 يناير سقط الطغاة بآلتهم الأمنية الجهنمية، ولم يبقَ من سبيل أمامهم لمواصلة محاولات عزل الإخوان سوى الضغط السياسى والإعلامى، وهنا أكرر القول: إن فكرة عزل الإخوان سياسياً لا تقتصر على مطالبتهم بسحب مرشحهم لرئاسة الجمهورية، ولكنها تمتد إلى الحيلولة بينهم وبين أى موقع تنفيذى بدءاً من رئاسة حى شعبى حتى رئاسة الجمهورية.. ومن يطالع قائمة الجهاز التنفيذى فى الدولة المصرية بدءاً من مجلس الوزراء والمحافظين ورؤساء المدن، وانتهاء برؤساء الأحياء لن يجد بينهم واحداً من الإخوان المسلمين.. ومن يراجع قائمة المتربعين على إدارة الآلة الإعلامية فى مصر سواء كانت مكتوبة أو مسموعة أو مرئية لن يجد بينهم كذلك واحداً من الإخوان المسلمين، هذا فضلاً عن المؤسسة الأمنية والعسكرية لن يجد بالطبع بينهما قائداً من الإخوان المسلمين.. والذى يجده أى منصف هو وجود الإخوان بكثافة فى المجالس والمواقع المنتخبة شعبياً، أى أنهم جاءوا برغبة شعبية، وليس سطواً ولا احتكاراً، كما يصور الإعلام الموغل فى الكذب.. فأين إذاً «التكويش»؟! وأين «المغالبة» عندما يفكر الإخوان فى المشاركة فى انتخابات الرئاسة كغيرهم من الأفراد والأحزاب؟.. هل المطلوب ممن يحوزون الأغلبية فى البرلمانات أن يكتفوا بأغلبيتهم البرلمانية، وينأوا بأنفسهم عن المواقع التنفيذية؛ ليظل من حقهم الكلام، كما يريدون فى البرلمان، بينما يظل المتحكمون فى المواقع التنفيذية يفعلون ما يريدون؟! ألا يعد ذلك انتحاراً سياسياً؛ لأنه يمثل رسالة للشعب أن من انتخبتموهم لا يملكون شيئاً من أمرهم سوى الكلام! ثم إذا سلمنا بضرورة انسحاب الإخوان من سباق الرئاسة.. فلصالح من بالضبط ينسحبون، ولصالح من يقدمون شعبيتهم الجارفة على طبق من ذهب؟! ثم أى ديمقراطية تلك التى تعطى الحق لتيارات مفلسة شعبياً وسياسياً، ولا تمتلك إلا الجعجعة فى القنوات الفضائية؛ لتطالب تيارات ذات شعبية جارفة بعزل نفسها عن الساحة حتى تخلو لهم؛ ليلعبوا ويتلاعبوا بها كما يشاءون؟! أكثر من خمس عشرة قناة فضائية منها فضائيات حكومية، ومعها صحافة رجال الأعمال باتت مهمتها الكبرى الطعن فى الإخوان من كل جانب، وفى كل اتجاه، وكأنما تسابق الزمن لقطع الطريق على التيار الإسلامى من الاقتراب من كرسى الحكم، ولم يفت بعض وسائل الإعلام الغربية المشاركة فى الزفة حتى أن مجلة «فورين بوليسى» وصفت فى عددها الأخير إصرار جماعة الإخوان على الاستمرار فى سباق الانتخابات الرئاسية قائلة: «هذه الجماعة الإسلامية المتبجحة تبدى وبشدة رغبتها فى السيطرة على السلطة التنفيذية».. هكذا باتت جماعة الإخوان لدى واحدة من أهم المجلات الأمريكية «جماعة متبجحة»؛ لأنها تصر على ممارسة حقها الدستورى والقانونى ككل القوى السياسية فى مصر.. ولقد بات حراماً على الإخوان الترشح لانتخابات الرئاسة حلالاً لكل مصرى! أكاد أعتقد أنه أصبح واجباً على جماعة الإخوان - فى عرف هؤلاء - دعوة كل القوى العلمانية وفلول «الحزب الوطنى» التى مازالت مهيمنة على المنظومة الإعلامية؛ ليحددوا لها خريطة طريق تسير عليه فى مواقفها السياسية حتى يرضوا عنها، أو يمنحوها شهادة الصلاحية المطلوبة؛ لتمارس دورها بعد أن تطبق معايير التوافق التى ترضيهم.. وتلك من العجائب!! (*) كاتب مصرى- مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية [email protected]