(1) قبل أن أتعرض بالمناقشة للشهادة التي قدمها د. جمال سلطان في معرض تعليقه على إفادات د. محمد البرادعي التي يقدمها الآن من خلال إحدى الفضائيات، هناك نقطتا نظام أحب أن أسوقهما بين يدي مناقشتي، الأولى أن بعض الأصدقاء يتساءلون عن جدوى الحديث في الماضي وأن الأولى هو الالتفات إلى الأمام، ووجوب توحيد الصف، بينما الحق أنه إن كانت للمحنة الحالية فوائد فهي كشف الخبايا وتمحيص الصف، فكيف بعد أن أخذ منا القدر الغالي والرخيص في مقابل تلك الفائدة أن نهدرها وأن ننساق لمحاولات غسل اليد بعد أن أرانا الله كل شيء وعبر شهور وسنوات وليس عبر موقف نلتمس لصاحبه فيه سعة التأويل، أو مظنة الغفلة أو التغفيل، أو معذرة الخطأ البشري.
(2) والنقطة الأخرى أن هناك فارق بين الشهادة وبين تحليلها، فالشهادة خبر، يحتمل الصدق والكذب، بينما التحليل رأي يحتمل الخطأ والصواب وليس الصدق والكذب ما لم يحتوي معلومات أخرى على صاحبها أن يدلل لها وتحتمل الصدق والكذب، والشهادة ملك لصاحبها، وتحليلها – متى استوفيت – ملك مشاع لكل الناس، له أن يتفق فيه مع صاحب الشهادة أو يخالفه.
(3) فعندما يقول د.جمال سلطان في مقالته بعنوان (هذه شهادتي في ترشح البرادعي لرئاسة الوزراء) التي نشرت يوم 30 يناير 2017 أن حوارًا دار بينه وبين أثنين من أقطاب حزب النور عقب 3 يوليو، وأنه رأى أنهما يميلان لرفض تولي البرادعي لرئاسة الوزراء، وأنه أحس أن هناك من طلب منهم ذلك، فهذا خبر يحتمل الصدق والكذب، والرجل عندي مصدق ولهذا أقبل على قراءة مقالاته – شأني في هذا شأن مئات الآلاف من متابعيه – ولهذا أيضًا أتشرف بالكتابة عبر صحفات الجريدة التي يشرف عليها، فهو عندي مصدق وبالتالي أقبل شهادته، وعندما يقول أنه حث الرجلين على أن يوافق حزب النور على ترشيح البرادعي، وأنه الاختيار الموفق لحظتها، والأقدر على حماية ما تبقى من مكتسبات يناير، فهذه أيضًا شهادة تحتمل الصدق والكذب، والرجل عندي مصدق. فالشهادة في مقالة د. جمال سلطان أنهما قالوا وكان هذا موقفهما، وأنه رد عليهما بما رد، وهو عندي مصدق في الأولى والثانية. لكن المقالة احتوت بالإضافة إلى الشهادة مجموعة من الاستنتاجات والآراء، وتلك لا تحتمل الصدق والكذب وإنما تحتمل الخطأ والصواب، وتلك التي استأذن في النقاش فيها. ومن ذلك أن د. جمال سلطان أفترض أن رفض حزب النور كان هو العامل الأساسي في عدم تولي البرادعي للوزارة، وأفترض أن البرادعي ليبرالي حقيقي ومؤمن بالحريات العامة وكرامة الإنسان والعدالة بكل أبعادها (كذا)، وأن توليه الوزارة في مصلحة ثورة يناير بشكل عام ومصلحة كل القوى المؤنة بها، لأن البلد بحاجة لتوازن مؤسسي ومعادلات كافية في توزيع السلطة (كذ) بما يجعل البلد تمضي في طريقها الصحيح، وأخيرًا أن هذا لم يحدث مما أخذ البلاد إلى وجهة أخرى مختلفة.
(4) وليسمح لي أستاذي أن أناقش آراءه واستنتاجاته، أما في النقطة الأولى وهو موقف حزب النور فهو جزء من مشهد أوسع بكثير، الحوار الذي دار بين الرجلين وبين د. جمال هو جزء من مشهد حزب النور، وعلى هذا فهذا الحوار هو جزء من جزء، وهو رقعة معلوماتية ترسم جزءً من صورة كبيرة، علينا لكي نراها أن نكملها برقع معلوماتية أخرى أو أن نملأ الفراغات بالاستنتاجات، فعلينا لمعرفة موقف حزب النور أن نعرف أكثر بكثير عن آليات اتخاذ القرارات داخل هذا الكيان الذي أثبتت الأيام والأحداث أنه مواقفه لم تكن بعيدة يومًا عن التدخلات من خارجه، وموقف حزب النور ككل هو جزء بسيط من المشهد، ولنا هنا على سبيل المثال أن نسوق شهادة أخرى نشرت في جريدة (المصري اليوم) في حوارها مع إبراهيم عيسى يوم 26/1/2017، حيث أكد الأخير أنه هو من أقنع البرادعي (برفض) تولى رئاسة الوزارة، ففي شهادة إبراهيم عيسى بالتالي أن رفض حزب النور تم تجاوزه أو تجاهله وعرضت الوزارة بالفعل على البرادعي لكنه رفضها، هذا خبر يحتمل الصدق والكذب، لكنه يوضح أن الصورة أوسع بكثير من حزب النور وأنه حتى لو كان هناك رفض من البرادعي أو على البرادعي فلم يكن عامله أساسي أو حتى من عوامله الأساسية هو حزب النور.
(5) وأما القول بأن البرادعي هو ليبرالي حقيقي ومؤمن بالحريات العامة وكرامة الإنسان والعدالة بكل أبعادها فهذا قوله عن نفسه وقول غلاة أنصاره عنه، ولكل منا أن يقول عن نفسه ما شاء ما لم تختبر دعواه في ارض الواقع، وقد اختبرت دعاوى البرادعي في أرض الواقع، مرة واثنتان وعشرات المرات، وسآخذ موقفًا واحدًا في الحديث عن ليبرالية البرادعي...إلخ، يقول البرادعي في شهادته أنه لم يتصل بالجيش مطلقًا قبل 3 يوليو، كأن الاتصال الوحيد بين البشر والكيانات هو عبر الهاتف والإيميل !!، بينما في تصريحات (كثيرة) (كثيرة) دعا البرادعي فيها الجيش جهرًا وسرًا للتدخل، على سبيل المثال، تصريح للبي بي سي نقلته جميع الصحف بالبنط العريض (البرادعي للبي بي سي) على الجيش واجب وطني بالتدخل لإنقاذ البلاد من الفوضى (جريدة الوطن، 25/2/2013)، هل هناك أتصال أكبر من هذا وأوثق ؟!!، أتصال عبر الأثير وعبر صدر صفحات الجرائد، وهو ألح من أي اتصال، إذ الاتصال العادي يحمل ضغط وإلحاح المتصل على المتصل به، بينما الاتصال عبر المذياع والجرائد يحمل فوق إلحاح صاحبه ضغوط كل ما يشاركونه الرأي ويضغطون معه، فهل هناك اتصال أصرح من هذا. وهل هذه هي الليبرالية ؟ ويقول: البرادعي مؤمن بالحريات العامة وكرامة الإنسان والعدالة، فكيف قبل منصب نائب الرئيس في عهد صودرت فيه كل هذا، فأغلقت منابر المعارضة وسجن جميع أقطابها وحدث ما حدث أمام الحرس الجمهوري وفي المنصة. البرادعي ليس بالشخص الغافل ولا بالغر الساذج، وقد كان يعلم عاقبة استدعاء الجيش، بدليل أنه يحاول الآن نفي اتصاله به وقد كان يستدعيه ليل نهار بتصريحاته العلنية ورسائله الشخصية (وليس بالضرورة للاتصال أن يكون مباشرًا).
(6) وأما القول بأن تولى البرادعي للوزارة كان سيؤدي لتوازن في السلطات يكون في مصلحة قوى يناير فأعجب من سابقه، إن توزان السلطات تخلقه القوى على الأرض ولا تخلقه المسميات، بدليل أن رئيس البلاد المنتخب نفسه نعلم الآن أنه لم يحقق يومًا توازنًا في السلطات بما كان تحت يديه، فكيف نتخيلها لرئيس وزراء معين في نظام ما بعد 3 يوليو، إذا كان الرئيس الشرعي منتخب من الشعب لم يجد في يديه قوة فكيف سيجدها رئيس وزراء معين أمام من عينه ؟!، هذا بافتراض أن البرادعي هو ذلك الرجل الذي يتحدث عنه د. جمال وما هو بذاك كما تقدم.
(7) إن الأمور ما كانت لتتجه للافضل في عهد البرادعي عن عهد الببلاوي، وإذا كان د. جمال يعجب من رفض حزب النور للبرادعي بدعوى علمانيته وقبولهم للببلاوي وهو ليس أقل علمانية، فإني أعجب بدوري من توقع أن يكون البرادعي أخلص لثورة يناير من الببلاوي وقد كان الأخير هو الآخر من المدعين للتمسك بها، ومن الرموز التي تصدرت المشهد في أعقابها، وقد رشح لرئاسة الوزارة في عهد الثورة، ثم تولى حقيبة وزارية، ثم استقال منها بدعوى اعتراضه على هدر حقوق الإنسان، وكانت شعاراته عريضة عرض شعارات البرادعي، فلما اختبرت على أرض الواقع رأينا ما كان، ولم تكن في يده أي سلطة حقيقية على كل حال، فمن أين أتى افتراض أن الحال كان سيختلف مع البرادعي، خاصة بعد التفويض وبعد أن أقر مجلس الدفاع الوطني فض اعتصام رابعة بالقوة.
(8) شهادتك مقبولة يا سيدي وهي عندي شهادة حق، وأما آراءك في الرجل فهي آراء حسن ظن تجاوزتها أفعاله بسنوات، وما أرى إلا أنها رغبة في العودة إلى ما يحلم به ليحقق هو الآخر أحلامه، فليجرب، ولكن بعيدًا عن التمسح بثورة يناير التي كان من أكثر الناس جناية عليها، وبعيدًا عن دعاوى اللبرالية وحقوق الإنسان التي قد يحاكم يومًا بدعوى المساهمة في انتهاكها كونه أحد أكبر رجالات تلك الفترة منصبًا وقدرًا، وأحيل لمقالة نشرت في المصريون يوم 31/7/2015 لدكتور سيف عبد الفتاح عنوانها (10 مواقف للبرادعي باع فيها (المدنية) للجيش). دمتم بخير والسلام عليكم
م/يحيى حسن عمر عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.