رغم أن تدخلَ "الدولةِ" في إدارة الأوقاف المصرية لم يكن له نمط موحدٌ، ولم يسرْ على وتيرة واحدة ؛ إلا أنَّ نتيجةَ هذا التدخل على المستوى الإداري تكاد تكون واحدة ، وذلك من حيث خضوع الجانب الأكبر من الأوقاف لإدارة مركزية حكومية تحت اسم "وزارة الأوقاف"، ومنها إلى"هيئة الأوقاف المصرية" التي تأسست في سنة 1971م، بعد أن كانت أوقاف الأقباط قد انفصلت وأصبحت لها هيئة مستقلة تديرها منذ سنة 1960م باسم "هيئة الأوقاف القبطية". وكي يسهم قطاع الأوقاف في مواجهة الأزمات الاقتصادية التي يواجهها المجتمع، يتعين التصدي أولاً لمشكلاته الإدارية والقانونية والاستثمارية الكثيرة والمتراكمة وأهمها الآتي: أ ضعف كفاءة الأداء: وتظهر هذه المشكلة بوضوح في تدني معدلاتِ عوائد استثمار الأعيان الموقوفة عن مثيلاتها غير الموقوفة. وهذه مشكلةٌ مزمنةٌ وموروثةٌ عن النظام التقليدي لإدارة الأوقاف. وكانت أحدَ مبرراتِ تدخل الدولة لتحديث هذه الإدارة ورفع كفاءتها قبل ثورة يوليو. وإذا اقتصرنا على تحليلِ أسباب هذه المشكلة، سنجدُ أنها ترجعُ في جانب منها إلى عدمِ وجود معايير نوعية خاصة لشغل وظائف قطاع الأوقاف؛ إذ غالباً ما يتم التوظيفِ طبقاً للقواعد المعمول بها في بقية الإدارات الحكومية، مع ضعف البرامج التدريبية التي يتلقاها موظف الحكومة عامة، والأوقاف خاصة. وفي ظلِّ شيوع صورة ذهنية سلبية عن هذا القطاع ، فإن نقلَ الموظف إليه يصبح في بعض الأحيان وسيلةً لمعاقبته، ودليلاً على أنه "غير مرضي عنه" من رؤسائه. أو قد يكون الاضطرارُ إلى العمل في قطاع الأوقاف تعبيراً عن الإخفاق في الحصول على وظيفة في قطاع حكومي أو غير حكومي مرموقٍ. ب الفساد الإداري: وهو من المشكلات القديمة/الجديدة في نظام الأوقاف. وقد أسهمَ فسادُ النظارِ قديماً، وفسادُ إدارات الأوقاف الحكوميةِ حديثاً في تعطيل الوقف عن أداء وظائفه الاجتماعية، وعَوَّقَ تطوره، وشَوَّه صورته، وأوهَنَ بنيته المادية من جراء السرقات والاختلاسات والاغتصابات، وعدم العدالة في توزيع الريع، والتفريطِ في صون الأمانات ..إلخ. والذي حدث في حالات كثيرة هو أن الفسادَ استمرَّ في ظل الإدارة الحكومية للأوقاف؛ بل إنه استفحلَ وتحولَ إلى فسادٍ مؤسسيٍ. واتضحَ أنَّ هذا الفسادَ المؤسسي أوسع من الفساد الفردي لناظر الوقف التقليدي، وأكثر منه ضرراً على الوقف، وعلى الموقوف عليهم. وبات الوقف في ظل الفساد الحكومي في إدارته مرادفاً لمعنى "المال السايب"، وخاصةً إذا أخذنا في الاعتبار ضعف الأجهزة الرقابية، وانخفاض كفاءة نظم المحاسبة والشفافية. ج تخلفُ نظم المعلومات والاتصالات والأرشفة؛ حيث لا تزالُ هذه الإدارات تعمل وفق أنظمة قانونية ولائحية بدائية، وتعتمدُ على العملِ الكتابي والتسجيل بأقلام "الحِبر"أو "الجاف"، أو "الرصاص والكوبيا" في الدفاتر والسجلات العتيقة، وعمل صورة أو أكثر بالكربون!! إلى اليوم في بعض الأقسام؛ وغير ذلك مما لم يعد يتفقُ أو يتلاءم مع مستجدات التطور التكنولوجي وثورة الاتصالات والمعلومات وأنظمتها الحديثة، التي أضحت أقل تكلفة وفائقة الدقة والسرعة معاً. ورغمَ إدماج قطاع الأوقاف في الجهاز الإداري للدولة؛ إلا أن هذا القطاع لا يزال أكثر القطاعات الحكومية تخلفاً وحرماناً من برامج الإصلاح والتحديث الإداري. ولا تزال الإداراتُ الحكومية للأوقافِ تتعثرُ في أضابيرها المكدسة من الوثائق والسجلات؛ فهي بلا نظام متطور لحفظها واستدعائها عند الحاجة. وهي متروكة أيضاً لعوادي الزمن دون حماية من حملات القوارض التي تجوس بحريةٍ خلالها، وتجري فوقها ومن أسفل منها، وتوقع بها خسائر جسيمة بين الحين والآخر. ولا توجد إحصاءات شاملة أو دقيقة لموجودات الأوقاف؛ إلى الدرجة التي دعت إلى إصدار قرار جمهوري في يوليو 2016م بتشكيل لجنة لحصر ممتلكات هيئة الأوقاف المصرية والنظر في أفضل السبل لاستثمارها وتنميتها. د مشكلةُ تسييس الإدارة العليا للأوقاف: وتتجلى هذه المشكلةُ في أكثرَ من مظهرٍ، منها: أن وزيرَ الأوقاف يجمع بحكم منصبه بين صفته السياسية؛ إذ هو عضو في مجلس الوزراء، وصفته الإدارية الولائية؛ إذ هو الناظرُ على جميع الأوقاف التي تديرها وزارته بحكم القانون. والوزير ملزمٌ بتطبيق سياسات حكومته في وزارة الأوقاف. وعادة ما يحدث الخروج في بعض الأحيان أو في أكثر الأحيان عن شروط الواقفين في صرف ريع أوقافهم. وهذا يسهم في تدهور الثقة الاجتماعية في نظام الوقف برمته. ومن زاويةٍ أخرى، نلاحظُ أن مشكلةَ التسييس بالمعنى السابق تنعكسُ سلبياً على نظام الوقف من جراء حالةِ عدم الاستقرار السياسي التي عانت منها منذ نشأت وزارة الأوقاف في سنة 1913م!. وعادةً ما تكثرُ التغييرات الوزارية كلما زاد عدمُ الاستقرار. وغالباً ما يأتي وزير الأوقاف على قائمة أي تغيير وزاري. وكل وزير جديدٍ للأوقاف يقوم بإعادة النظر في البرامج والمشروعات والخطط القديمة التي وضعها سلفه، ومن ثم يجري تعليقُ بعضها، أو إلغاؤه، أو تعديله؛ وهكذا ترتبك الإدارة الوقفية لفترة طويلة قبل أن تعود للانتظام، وسرعان ما يتغير الوزير، فتعود حالة الارتباك من جديدٍ، وهكذا. والسؤال هنا هو: هل نظام الوقف قابل للإحياء أو الإصلاح كي يستأنف دوره بناء ما سميناه في دراساتنا "مجال تعاوني مشترك بين المجتمع والدولة"، أم لا؟. الإجابة هي: نعم. ذلك لأنَّ نظام الوقف رغم كل ما أصابه من أضرار مادية ومعنوية لا يزال وسيظلُّ يحمل داخله عوامل بقائه وتطوره. وقد استطاعت بعض البلدان العربية والإسلامية بالفعل أن تخطو خطوات واسعة وناجحة لإحياء هذا النظام وتفعيل دوره منها: السودان، وماليزيا، وتركيا، وأغلب دويلات الخليج، والمغرب الأقصى، وسلطنة عمان، والأردن. هذا إضافة إلى التطور الهائل الذي يشهده نظام الوقف المهاجر من حضارتنا إلى البلدان الأوربية والأمريكية. ويكفي أن نعرف أن أعظم الجامعات الأمريكية مثل "هارفارد" تأسست بالوقف بمعناه الإسلامي الحرفي وهو "تثبيت الأصل، وتسبيل الثمرة": أي تخصيص أصول اقتصادية منتجة للجامعة، وعدم التصرف فيها، واستثمار هذه الأصول وإنفاق عوائدها الاستثمارية لتمويل أنشطة الجامعة. ولا تزال هارفارد تستمد تمويلها من وقفايتها الأهلية حتى اليوم، وقد بلغت أصولها الموقوفة 37 مليار دولار، هي حصيلة ما يقرب من 11000 وقفية وتبرع على سبيل الوقف لصالحها. وهي بهذا تعتبر أكبر وقفية تعليمية في العالم. وقبل أقل من سبعين عاماً كانت أوقاف الأزهر الشريف هي أكبر وأقدم وقفية تعليمية في العالم. إضافة إلى أن 48% من إجمالي تلاميذ التعليم الأولي(الابتدائي) في مصر كانوا يتلقون تعليمهم في مدارس الأوقاف حسب إحصاءات السنة المكتبية للمملكة المصرية في عام 1952/1953م. الذي يجعلني واثقاً من قابلية قطاع الوقف في مصر للتطور والإسهام في الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي هو: وجود رغبة أصيلة وكامنة لدى أصحاب الثروات والأغنياء والمحسنين المصريين في المبادرة بالتبرع للمصلحة العامة، ولكن وفق نظام الوقف الخيري الذي لا تتدخل فيه الحكومة، ولا تسيطر عليها بيروقراطيتها التسلطية المترهلة.