منذ دبت الحياة على الأرض كانت قصتها تُكتَب بأحرف أربع، إنها الG والT والC والA، الجزيئات الأربع التي تنتظم في أزواج لتصنع حلقات وضفائر حمضنا النووي الDNA. إنها قصة حياة البشرية وكل الكائنات الحية على الأرض مكتوبة مرقومة بأحرف مبينة. لكن الجديد الآن هو أن الباحثين تمكنوا من تصنيع أولى الكائنات المجهرية الدقيقة التي تحتوي على شيفرات وراثية موسّعة، ما يفتح أمامنا آفاقاً جديدة من خلق كائنات جديدة وأحياء مختلفة كلياً بل ومن تسخيرها كذلك، حسب صحيفة الجارديان البريطانية. فقد تمكن باحثون أميركيون من تعديل ميكروبات الإي كولاي E-Coli المعروفة لكي تحمل حمولة أكبر من المواد الوراثية، ما سيمكنهم على حد قولهم من برمجة كيف تتصرف وتعمل هذه الأحياء الدقيقة. يهدف عمل الباحثين إلى تصنيع ميكروبات تنتج أنواعاً جديدة من البروتين يمكن حصدها وتحويلها إلى عقارات وأدوية لمعالجة طيف واسع من الأمراض، بيد أن الباحثين يقولون كذلك أن التقنية ذاتها قد تقودنا نحو طريق يفضي بنا إلى تصنيع مواد جديدة ومختلفة لم توجد من قبل. ففي تقرير نشر الإثنين 23 يناير 2017 وصف الباحثون تلك الميكروبات المعدلة وراثياً بأنها نقطة بداية جهود "لخلق أحياء مجهرية ذات صفات غير طبيعية كلياً ومواصفات لا توجد في أي مكان آخر في الطبيعة." كما أضاف الباحثون أن الخلية الحية تمثل "شكلاً مستقراً من أشكال الحياة شبه الصناعية" وأنها "تضع حجر الأساس على طريق تحقيق الهدف الرئيس لعلم الأحياء الصناعية، ألا وهو خلق أنماط جديدة من الحياة تقوم بوظائف جديدة." ما فعله فلويد رومزبيرج وفريقه في معهد أبحاث سكريبس بكاليفورنيا هو أنهم وسّعوا الشيفرة الوراثية المكونة من 4 أحرف وأطالوها لتحوي 6 أحرف وذلك عبر إضافة الجزيئين الجديدين المسميين X و Y إلى التكوين الجيني لميكروب الإي – كولاي. يتم تعديل الميكروبات لكي تمتص المواد الجينية الجديدة هذه التي يقوم الباحثون بتصنيعها على حدة ثم يطعمونها للخلايا. إن ضرورة تزويد الميكروبات بجزيئي X و Y غرضها ضمان موت الخلايا في حال تسربت بطريقة ما إلى خارج المختبر، ولكن رومزبيرج قال أنه رغم هذه الخطوة التدبيرية لضمان السلامة فإنه كثيراً ما يوجه له السؤال إن كان شاهد فيلم Jurassic Park؟ ففي ذلك الفيلم الذي أنتج عام 1993 يتساءل جيف جولدبلام إن كانت ديناصورات الحديقة الجوراسية قادرة على التكاثر في الطبيعة البرية رغم احتياطات السلامة التي أدخلت على تكوينها الجيني تحسباً لطارئ ما. يقول رومزبيرج "إن ما جسده الفيلم مختلف جداً عن احتياطات سلامتنا، فاحتياطاتنا مبنية على توفر ال X و ال Y، والخلية لن يتسنى لها أبداً إنتاجهما." وأضاف رومزبيرج "كذلك إن آلية عمل التطور الجيني تعتمد على البدء بشيء قريب من الطبيعة ثم تغيير فِعله بخطوات صغيرة. أما جزيئا ال X و ال Y اللذان لدينا ها هنا فهما مغايران للحمض النووي الطبيعي، ما يعني أن الطبيعة لا علاقة لها من قريب ولا من بعيد ببداية عمليتنا. لقد أثبتنا عدة مرات أننا في كل مرة نمسك فيها عن إضافة ال X و ال Y، تموت الخلايا دوماً." وليست هذه المرة الأولى التي يصنع فيها رومزبيرج ميكروبات ذات أبجدية جينية موسعة، ففي عام 2014 أعلن عن إنتاج أولى الأحياء الدقيقة من هذا النمط، بيد أنها كانت ضعيفة مريضة سرعان ما ماتت، وقد قارن رومزبيرج الوضع كأنه أثبت قدرته على توليد الكهرباء لكن من دون القدرة على استغلالها، فقال "لقد أثبتنا أن في وسعنا إلقاء زر التشغيل فيشتعل الضوء، لكنه ما يلبث أن ينطفئ بسرعة." وخلال العامين الماضيين بحث فريقه في كيفية تقوية هذه الميكروبات والمحافظة على تمرير أساساتها الجينية الاصطناعية دون المساس بها عند الانقسام الجيني. فإن لم يحدث تمرير لجزيئي ال X و ال Y، عندها سيعود الحمض النووي الخاص بالميكروبات إلى سابق عهده الأول بشيفرته الوراثية رباعية الأحرف الأصلية. 3 خطوات وقد تطلب استبقاء الميكروبات على قيد الحياة وتمكينها من تمرير موادها الجينية الجديدة بشكل سليم 3 إصلاحات مهمة. ففي أحد هذه التحسينات قام رومزبيرج بتعديل الجهاز المناعي للميكروب لكي يدمر أي حمض نووي تنقصه جزيئات ال X وال Y الصناعية، فكانت النتيجة النهائية التي حصل عليها رومزبيرج أن الميكروبات تمكنت من المحافظة على المواد الجينية الجديدة إلى أجل غير مسمى "الآن نستطيع الإلقاء بزر التشغيل فيبقى الضوء مشتعلاً" حسب ما قاله للجارديان. حالياً لا يقوم هذان الجزيئان الجديدان بأي شيء سوى البقاء على قيد الحياة في الميكروبات، أما المرحلة الجديدة من البحث فستكون في تمكين الميكروبات من قراءة المواد الجينية الجديدة وبمجرد ذلك تعمد من فورها إلى صناعة أنواع جديدة من البروتينات غير موجودة في الطبيعة. يقول رومزبيرج "إن هذا سيفتح الباب على مصراعيه أمام ما سيمكننا فعله بالبروتينات." وقد نشرت تفاصيل هذا العمل في دورية Proceedings of the National Academy of Sciences. وقال بول فريمونت المتخصص في علم الأحياء الصناعية في ال Imperial College بلندن "إن هذه خطوة مهمة نحو الأمام في إظهار أن خلية حية مثل البكتيريا البسيطة يمكن هندستها لتحافظ على زوج صناعي من أساسات الحمض النووي غير موجود في الطبيعة. هذا يقودنا إلى مفهوم أنظمة حيوية شبه صناعية يمكن هندستها لتؤدي وظائف معينة محددة تعتمد على شيفرة جينية مميزة مقارنة بالشيفرة الجينية الطبيعية." بيد أن فريمونت قال إن "القوة الحقيقية" في هذا الأسلوب وهذه المقاربة ستكون في تصنيع ميكروبات تحمل أسساً صناعية متعددة في الحمض النووي (لا ال X وال Y فقط)، أو حتى تحميلها خريطة جينية صناعية مصممة بشرياً بشكل كلي، وهو ما ألمحت إليه الدراسة على سبيل أنه احتمال نظري من ناحية المبدأ. وقال رومزبيرج في الختام إنه من المهم للعلم أن يتم شرحه بطريقة تساعد على "التخلص من مخاوف المجهول" مضيفاً "إنه ينبغي تقدير المنافع مقابل التكلفة المحتملة، ففي حالتنا هذه المنافع تشمل عقاقير دوائية أحدث وأفضل."