مما لا شك فيه أن للإنسان ذكريات في حياته لا يمكن أن ينساها , وتأتي الذكريات الحسنة والطيبة منها في المقام الأول , فهو لا ينسى مثلاً يوم ميلاده ولا يوم تخرجه في الجامعة , ولا يوم استلامه لوظيفته , ولا يوم زواجه , ولا يوم ولادة أول طفل له ونحو ذلك من اختيارات الناس لما هو حسن لا يُنسى , ولكن هناك ذكريات وطنية أكبر من الشخصية , فذكرى انتصارات أكتوبر لا تنسى , فهي أيام وقفت فيها الشعوب العربية خلف جيوشها لتحرير الأرض المغتصبة واستعادة الكرامة , وكذلك كان يوم 25 يناير في الذاكرة تعبيراً عن إرادة أمة وطموحات شعب عاش مرحلة عصيبة في قبضة حكم استبدادي متمسك بالسلطة , بل ويريدها ملكية تورث للأبناء والأحفاد , فضلاً عن حالة فساد مستشرية أهدرت فيها ثروات البلاد , وسلبت فيها حرية المواطن وإرادته بتزوير الانتخابات النيابية , وكل ذلك مهد الطريق إلى غضبة جماهيرية وقف فيها الجميع يطالبون برحيل النظام ومحاكمته , فاستسلم مبارك اخيراً وتنازل عن السلطة تحت ضغط القوات المسلحة , ثم جرت انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف القضاء ورعاية القوات المسلحة , فظهرت النتيجة الحقيقية وجاء التمثيل النيابي مطابقاً للواقع , وصعد الدكتور محمد مرسي "عفا الله عنه " رئيساً للبلاد , ولم يكد يتولى لفترة بسيطة حتى بدأت الاضطرابات ضده , ولم يتمكن من إدارة الدولة في هذا الظرف الاستثنائي , فتمت الإطاحة به وفتح باب الصراع من جديد فعدنا إلى الوراء كثيرا حيث سالت الدماء , وتقطعت الأواصر والوشائج بين أطياف المجتمع , وازدادت حالة الكراهية والحقد والتربص بالآخر يوماً بعد يوم , كما شاهدنا أن الأحلام والأماني تتلاشى وتتحطم في ظلمة الصراعات الدامية , ووجدنا الاقتصاد يترنح والديون تتراكم , وقائمة المسجونين في اضطراد , وأعداد الثكالى والأرامل واليتامى في تصاعد مستمر , وبالجملة رأينا غياب الرؤية السديدة والمنهج الصحيح في القرار الحكومي عند حل الأزمات , وأصبح الوطن جريحاً يصيح بكل وطني يحب وطنه أن يسعى لإخراج البلاد من أزمتها , كي يعود الجميع إلى الموقف الواحد والأهداف النبيلة لثورة 25 يناير والتي كان يلتف حولها الجميع . ولقد حاولت من جهتي طرح حلول سياسية عادلة , وكذلك فعل عدد من المحبين لوطنهم المدركين لخطورة استمرار الصراع وأثره على مستقبل البلاد , ولكن هذه الجهود لم تفلح وسار كل فريق في طريقه فتقاطعت الطرق , وسدت الأبواب , واشتعلت الصراعات , ولاقى أصحاب المبادرات كثيراً من الاتهامات والمطاعن فصبرنا وعفونا واحتسبنا ذلك عند الله تعالى . واليوم أجد نفسي في هذه الذكرى حزيناً على يوم كنا فيه صفاً واحداً متألفاً ومتماسكاً تمنيت أن يعود بنا الزمان لهذه الذكريات الجميلة التي عشناها سعداء ونحن نتنفس نسيم الحرية والكرامة والعدالة . إن هذه الأمنية ليست بعزيزة على الله تعالى إذا ما وفقنا إلى التآلف وإلى الاستجابة لنداء العقل والحكمة , والقبول بالمصالحة المجتمعية والحلول السياسية العادلة فتعود الحقوق إلى أهلها , وتخلوا السجون من نزلائها , ونتخلص من الفساد وأسبابه , ونتعاون فيما بيننا على البر والتقوى , وننهض بمجتمعنا في المجالات المختلفة . وختاما أسأل الله تعالى أن يحقق الأماني والآمال ويجمعنا على طاعته وإعلاء كلمته . والله المستعان وصلى الله وسلم على سيدنا محمد .