انعقدت القمة الفرنسية الإفريقية الثالثة والعشرون في العاصمة المالية باماكو في الأسبوع الماضي على مدى يومين، تحت شعار أرادته باريس لهذه القمة التي هي آخر قمة للرئيس الفرنسي الحالي جاك شيراك وربما آخر قمة فرنسية إفريقية قبل أن يتحول هذا التقليد الذي بدأ عام 1973 إلى قمة إفريقية أوروبية، هذا الشعار هو"قمة الشباب"، وهو شعار أثار الكثير من النقد في الصحف الإفريقية وحتى الفرنسية، لأنه ترك تساؤلات محيرة حول مرامي القوة الاستعمارية السابقة للقارة من وراء التركيز على الشباب الإفريقي، في الوقت الذي قررت فيه إغلاق أبوابها أمام المهاجرين من أبناء القارة ومنطقة شمال إفريقيا وإدخال تعديلات صارمة على قوانين الهجرة فيها، وما إن كان هذا التركيز يستهدف استقطاب الشباب الإفريقي المؤهل بعد أن استغلت في الماضي سواعد أجدادهم وآبائهم. بداية ساخنة افتتحت القمة في أجواء ساخنة بسبب أكوام الغضب المحتقن في صدور الأفارقة بعد أحداث ضواحي باريس العنصرية التي خلفت مذاقا سيئا لديهم وأظهرت لهم الوجه البشع لفرنسا الاستعمارية، حيث شهدت العاصمة المالية"قمة"موازية أو هكذا تحدثت عنها الصحف الفرنسية تظاهر فيها المئات من أعضاء المنظمات غير الحكومية المعارضة للهيمنة الاستعمارية الفرنسية والعولمة، محتجين ضد أهداف القمة وسعي باريس إلى تحويل القارة إلى مجال للاستعمار الجديد بعدما ولى الاستعمار القديم وسبله المكشوفة. غير أن ما زاد الطين بلة هو تزامن القمة التي أرادت منها فرنسا إظهار وجهها الإنساني تجاه قارة تطحنها جميع أنواع الشرور من الأشقاء والأعداء مع مصادقة البرلمان الفرنسي على قانون"محاسن الاستعمار الفرنسي فيما وراء البحار" ب 138 صوتا مقابل 94 وتمرير المادة الرابعة منه التي تنص على تمجيد ماضي الاستعمار الفرنسي في بلدان شمال إفريقيا، ورفض مطالب اليسار الفرنسي بإلغاء تلك المادة التي يقول مؤرخون فرنسيون إنها سوف تدخل العلاقات بين فرنسا وبلدان المغرب العربي خاصة الجزائر حقبة أخرى من المواجهة السياسية وربما تشكل بداية النهاية للوجود الفرنسي المرحب به هناك. كما أن القمة جاءت في أعقاب الأحداث المأساوية التي شهدتها مدينتا مليلية وسبتة المحتلتان في شهر سبتمبر الماضي، إثر محاولة المئات من الشباب الأفارقة عبور الحواجز المقامة هناك من طرف الحكومة الإسبانية، ودخول إسبانيا ومن ثم أوروبا. الهجرة والأدمغة لذلك كان من الطبيعي أن تتركز القمة حول موضوع الهجرة الإفريقية نحو فرنسا، وآفاق الشباب الإفريقي الذي لا يجد منافذ للعيش الكريم في بلاده، وشروط امتصاص الطاقات الإفريقية الشابة. فنسبة 60 بالمائة من سكان القارة السمراء البالغين حوالي 900 مليون حسب آخر تقرير للبنك الدولي هي من فئة الشباب الذي لا يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر، ما يعني أن القارة الإفريقية تعتبر خزانا من القوى العاملة والساكنة النشيطة، أمام صورة أوروبا العجوز التي تجلس فيها الفئة المسنة على قائمة الهرم. غير أن إفريقيا تعيش وضعا كارثيا على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فأكثر من 320 مليون من السكان يعيشون على أقل من دولار في اليوم، حسب منظمة الأممالمتحدة، وإذا استمرت حركة الهجرة الإفريقية كما هي اليوم، فإن واحدا من كل عشرة أفارقة سوف يعيش في الخارج في العام 2025، حسب آخر تقرير للمنظمة الدولية للهجرة. وعلاوة على كل هذه المشكلات تضاف المشكلات السياسية، والتي تقف على رأسها الحروب الأهلية الداخلية والأزمات السياسية الدورية. هذه الأرقام لا تشكل كل الصورة الحقيقية لإفريقيا. فمحنة القارة في الحاضر تضاف إليها محنة افتقاد المستقبل التي يجسدها اليوم تنامي هجرة الأدمغة نحو الخارج وارتهان مستقبلها. حيث يؤكد تقرير المنظمة الدولية للهجرة المشار إليه أعلاه إلى أن إفريقيا تفقد سنويا ما يربو على عشرين ألفا من الخبراء، وأن 300 ألف من الخبراء الأفارقة يعيشون خارج بلدانهم، الأمر الذي يترك القارة بدون أي بنية تحتية صحية أو اقتصادية، بحيث إن 38 بلدا من بلدان القارة(47 بلدا) لا تتوفر على الحد الأدنى المحدد من قبل منظمة الصحة العالمية، وهو 20 طبيبا لكل 100 ألف من السكان. هل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟ لكن كيف كانت المقاربة الفرنسية لمشكلات القارة التي تعتبر سياستها إحدى مسبباتها، خلال القمة الأخيرة في باماكو؟. حاول الرئيس الفرنسي أن يظهر للمسؤولين الأفارقة أن بلاده ستكون"المدافع عن إفريقيا" أمام الاتحاد الأوروبي والعالم، وطالب البلدان الأوروبية برفع نسبة الدعم الذي تقدمه للقارة السمراء من 0.4 بالمائة من دخلها القومي إلى 0.7 بالمائة، وهو تعهد فرنسي يرجع إلى العام 1981 ويتوقع أن ينتهي بحلول العام 2012، وتعهد بأن ترفع بلاده سقف الدعم الذي تقوم بتخصيصه للأفارقة. لكن شيراك الذي قدم تلك التعهدات هو نفسه من أعلن في القمة أن بلاده لم تعد راغبة في المزيد من المهاجرين، وأنها ترحب على العكس مما كان عليه الواقع في الماضي، بالمهاجرين"المؤهلين" من شباب الجامعات والمعاهد، أي أن باريس مصممة على المزيد من استنزاف القارة في وقت تحاول فيه لعب دور"العطار" الذي يريد إصلاح ما أفسده الدهر. المصدر : الإسلام اليوم