كيف يمكن البناء على المشروع الإصلاحي الذي قدمه الأستاذ الإمام محمد عبده لمواجهة تحديات الواقع المعاصر والانطلاق نحو مستقبل أفضل لمجتمعاتنا العربية والإسلامية؟ هذا هو السؤال المركزي الذي دارت حوله بحوث ومناقشات المؤتمر الدولي الذي عقدته مكتبة الإسكندرية يومي 4و5/12/2005 تحت رعاية وإشراف مديرها الأستاذ الدكتور إسماعيل سراج الدين ، وذلك بمناسبة مرور مائة سنة على رحيل الأستاذ الإمام محمد عبده. وقد شارك في هذا المؤتمر أكثر من أربعين عالماً وباحثاً ينتمون إلى سبع دول، كان في مقدمتهم الدكتور محمد عمارة، محقق الأعمال الكاملة للأستاذ الإمام، وفضيلة مفتى الديار الشيخ علي جمعة ، والدكتور أبي يعرب المرزوقي أستاذ الفلسفة(تونس)، والدكتور عبد السلام الهراس(المغرب)، والشيخ مروان قباني، والدكتور رضوان السيد(لبنان)، والدكتورة فاتنة أمين شاكر(السعودية)، والأب كرستيان فان نيسبن(هولندا). قدم المشاركون واحداً وعشرين بحثاً، تناولت مختلف جوانب المشروع الإصلاحي للأستاذ الإمام، وشهدت جلسات المؤتمر مناقشات مكثفة ، وحامية في كثير من الأحيان حول الرؤى التجديدية والإصلاحية التي قدمها. أوضح الدكتور عمارة في بحثه أن " الوسطية الإسلامية" هي المحور الأساسي الذي ارتكز عليه المشروع الإصلاحي للإمام، وأن الانحراف عن هذه الوسطية يؤدي بالضرورة إما إلى التفريط في أصول العقيدة ومبادئها القويمة، أو إلى الإفراط في التمسك بالشكليات والمظاهر التي لا أثر لها في مواجهة المشكلات الحقيقية في الواقع الاجتماعي، ولا تفيد كذلك في توجيه مسار النهضة نحو الوجهة الإنسانية الصحيحة التي جاءت بها رسالة الإسلام. وفي ضوء هذا المفهوم للوسطية يمكن فهم الانتقادات التي وجهها الأستاذ الإمام إلى الغلو النصوصي السلفي، والغلو الباطني الخرافي، والغلو المادي الوضعي. فاجأ الدكتور سيد دسوقي حسن أستاذ هندسة الطيران بجامعة القاهرة الحضور ببحث في "منهج الأستاذ الإمام في تفسير القرآن"، أكد فيه على أن الإمام قد نجح في فك أسر التفسير القرآني من المناهج التقليدية التي سجنته على حد تعبيره في ثلاثة محابس هي: زنزانة التفسير بالمأثور، وزنزانة الناسخ والمنسوخ، وزنزانة المعارف الكونية في عصر كل مفسر. وإنه لكي تنفتح آفاق التفسير وتصبح أكثر فعالية في الواقع لابد من الخروج من تلك المحابس، ولن يكون ذلك إلا بإعمال الفكر ، وتشغيل العقل؛ لأن" أكثر ما روي في التفسير المأثور أو كثيره حجاب على القرآن، وشاغل لتاليه عن مقاصده العالية المزكية للأنفس المنورة للعقول" ، على حد تعبير الأستاذ الإمام في تفسير المنار . وجاء تعقيب فضيلة المفتي الشيخ علي جمعة مذكياً للاتجاه التجديدي في منهج الأستاذ الإمام ليس في التفسير فحسب ، وإنما في الإفتاء، وفي استنباط الأحكام وربطها بالواقع من جهة ، وبالمقاصد العامة للشريعة من جهة أخرى. وطرح فضيلة المفتي نظرية بالغة الأهمية فيما يتعلق بكيفية الخروج من أسر الفهم الحرفي أو الشكلي للنصوص، واقترح في هذا الصدد منهجاً أطلق عليه "التجريد"، وقصد بذلك البحث عن المعاني والدلالات المجردة التي تحملها النصوص دون التوقف على الشخوص والأعيان التي تشير إليها، وأكد على أن هذا المنهج هو الذي يكشف عن جوهر القيم الإسلامية، ويبين كيف إنها إنسانية وفطرية يشترك فيها كل بني آدم، ولا تقتصر فقط على المسلمين دون غيرهم، ومن هنا جاءت سمة العالمية في الرسالة الإسلامية، وهذا ما كان يحرص عليه الأستاذ الإمام محمد عبده ونحن في أمس حاجة إليه في ظل موجة العولمة الراهنة التي تفتقر إلى العمق الروحي والأخلاقي والقيمي الذي يمثل قاسماً فطرياً مشتركاً بين بني البشر كافة. كشفت بحوث أخرى عن جوانب مهمة من المشروع الإصلاحي للأستاذ الإمام، ومنها بحث الدكتورة نادية مصطفى عن رؤية الإمام للعلاقات الدولية للأمة الإسلامية، وبحث الدكتور سيف عبد الفتاح عن رؤية العالم لدى الإمام، وبحث الدكتور مجدي سعيد عن دوره في تأسيس الجمعيات الأهلية وعنايته بالعمل الاجتماعي ودعوته إلى تطوير تطبيقات العمل الخيري من مجرد الإغاثة إلى التنمية وتحسين نوعية حياة الإنسان بتوفير الخدمات الأساسية له من تعليم ورعاية صحية وعمل ومسكن ملائم. وبحثنا عن الأصول الاجتماعية والثقافية للإمام، وقدم الدكتور سعيد اللاوندي بحثاً لافتاً حول " المشوار الاغترابي للإمام" من منظور ثقافي حضاري. وفي هذا البحث دفع الدكتور سعيد عن الإمام تهمة التعاون مع الاحتلال، وأثبت بالنصوص أنه كان يكره الاحتلال كراهية التحريم، وأنه وصف الدول الأوربية بأنها " ذئاب مفترسة" ليعبر عن رفضه لسياستها الاستعمارية في العالم العربي والإسلامي. ومع ذلك ظل الموقف العملي للإمام من الاحتلال الإنجليزي في مصر مثار اختلاف كبير بين المشاركين في المؤتمر، وذلك باختلاف منطلقات التقييم ومعاييره التي تبناها أطراف الخلاف. كذلك ثار الخلاف حول موقفه من علم الكلام وجدوى الاستمرار في الحديث عن مسائله وقضاياه القديمة، بعد أن باعد الزمن بيننا وبينها حتى أضحت لغة علم الكلام غريبة وغير مفهومة في سياق الواقع الراهن. وثمة قضايا أخرى كثيرة كانت محلاً للجدل والاختلاف تارة ، والاتفاق تارة أخرى، سوف يتضمنها الكتاب الذي ستصدره مكتبة الإسكندرية بأعمال المؤتمر في وقت قريب. ولعل أهم ما كشف عنه هذا المؤتمر هو أن الدعوة للإصلاح والتجديد دعوة أصيلة في بلادنا ، وأن عمرها يتجاوز المائة سنة، وأن حاجتنا للإصلاح تمليها اعتبارات محلية وداخلية قبل أن تفرضها قوى خارجية لا تتفق مصلحتنا مع مصلحتها بالضرورة، والأهم من ذلك أن لدينا سلسلة متصلة من الرواد المصلحين . وقد جاء مؤتمر مكتبة الإسكندرية حول المشروع الإصلاحي للأستاذ الإمام ليشكل إضافة قيمة إلى الجهود التي تقوم العلمية والفكرية الرصينة التي تقوم بها المكتبة للمساهمة في دفع عجلة الإصلاح والتقدم ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي أيضاً. واستطاعت المكتبة أن تثبت مكانتها على الخريطة الفكرية والثقافية في فترة وجيزة لم تتعد ثلاث سنوات منذ افتتاحها في أكتوبر سنة 2002 . وأضحت مدينة الإسكندرية بفضل الجهد الدءوب لمدير مكتبتها الدكتور إسماعيل سراج الدين مركز جذب ثقافي قادر على كسب سباق المنافسة مع مراكز عريقة على المستويين المحلي والدولي. * خبير في المركز القومي للبحوث الاجتماعية