لم يكن اليمن بحاجة إلى أزمة جديدة لتضاف لسلسلة أزماته حتى يخرج علينا الرئيس السابق علي عبدالله صالح بتصريحات يكيل فيها الانتقادات لحكومة محمد سالم باسندوه، ويتهمها بالعجز عن إدارة شئون البلاد، بل تصعيد هجومه على الثوار على حكمه ووصفهم البلطجية، متسائلا باستنكار: عن أي ثورة يتحدثون..ثورة البلطجية ؟..ثورة التخلف ؟ الثورة الحقيقية هي ثورة 62 في الشمال و 14 أكتوبر في الجنوب، ويوم تحقيق الوحدة اليمنية في مايو1990، بل وحاول التشكيك في ثورات الربيع العربي ووضعها في سياق التدخل الأجنبي في شئون المنطقة، ووعد بكشف أسرار ما جرى في توقيت لاحق. صالح الذي أدلى بهذه التصريحات بعد فترة قصيرة من تسليمه السلطة لنائبه الفريق عبدربه منصور هادي حاول على ما يبدو تفجير أزمات جديدة في وجه خلفيته ورئيس وزراء حكومة التوافق الوطني، فضلًا عن أنه أراد توصيل رسالة للرأي العام اليمني أنه مازال موجودًا في المشهد، ولم ينته دوره السياسي كما يتطلع البعض. تفخيخ الحوار إلا أنه وفي سياق حماسه تجاهل أن هذه التصريحات لن تمر مرور الكرام على خصومه الذين طالبوا بمحاسبته على هذه المواقف، لكونها جاءت بعد تاريخ تنحيه عن السلطة في نهاية يناير الماضي، بالتالي فلا تنطبق عليه الحصانة وفقًا للمبادرة الخليجية التي أنهت فترة طويلة من الاضطرابات السياسية في البلاد. والواقع أن هذه التصريحات والوضعية الخاصة بصالح تعد من الملفات الساخنة المطلوب من حكوم هادي –باسندوه التوصل لتسوية عاجلة لها، لكون التصدي لنفوذ صالح وتطهير المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية من أنصاره تعد من أهم مطالب الثوار الرافضين مغادرة ساحات التغيير في العاصمة صنعاء إلا إذا رأوا جزءًا من أهداف الثورة تحقق، خصوصًا أن جميع لمؤشرات تؤكد أن فلول صالح مازالت تسيطر على البلاد، وتضع العراقيل أمام تنفيذ بنود المبادرة الخليجية، وأهمها مؤتمر الحوار الوطني المنوط به تحقيق وفاق وطني شامل يواجه جميع التحديات المطلوب إنجازها في يمن ما بعد صالح. ملفات ساخنة ويواجه الحوار الوطني صعوبات بالغة في ظل سخونة الملفات الواجب عليه إيجاد تسوية لها، وعلى رأسها صياغة دستور جديد و تحديد شكل النظام السياسي اليمني، حيث تميل أغلبية اليمنيين حاليًا إلى ضرورة وجود نظام برلماني قوي ينهي عقودًا طويلة من الديكتاتورية، ويقطع الطريق على ميلاد مستبد جديد، فالصلاحيات المطلقة التي يتمتع به الرئيس في الدستور اليمني الحالي ينبغي الانقضاض عليها لصالح البرلمان ورئيس الوزراء، فضلًا عن ضرورة الفصل التام بين السلطات التشريعية والتنفيذية، وضمان استقلال حقيقي للقضاء، فضلًا عن النص بدون مواربة على أن وحدة البلاد خط أحمر بشكل يهمش من النزعات الانفصالية في جنوب البلاد وصعدة، حيث التمرد الحوثي. مواطنة وتهميش من البديهي التأكيد على أن ملف الوحدة اليمنية يبقى من أصعب الملفات الواجب على حكومة الوحدة الوطنية التعاطي معها بشكل هادئ، يغلّب لغة الحوار على المواجهة، ويضمن تقديم حزمة من المقترحات والنصوص الدستورية التي تؤمن مبدأ المواطنة كإطار حاكم للعلاقة بين اليمنيين، وينهي حالة التهميش التي عانى منها الجنوبيون منذ الحرب التي اشتعلت في البلاد عام، 1994وخلفت جراحًا شديدة بدت عصية على الالتئام حتى الآن، بسبب النهج الإقصائي الذي تعامل به صالح مع شركائه في الوحدة، سواء من المؤيدين أو المعارضين لها، وهو نهج ينبغي التخلص منه حاليًا والبحث عن إيجاد شراكة وطنية تضمن وحدة البلاد، وتنهي أي احتمالات لتفتيت البلاد، سواء عبر نظام فيدرالي أو كونفيدرالي. ولا شك أن وجود كل من هادي –باسندوة على رأس السلطة - وهما وحدويان ينحدران من جنوب البلاد، ولعبا دورًا مهما في صيانة الوحدة من التآكل صيف 1994- يوفر فرصة مهمة للبلاد لتجاوز هذا الاختبار الصعب، فلدى الطرفين علاقات تبدو جيدة مع عرابي الانفصال في الجنوب للحفاظ على وحدة البلاد، انطلاقًا من الاستناد إلى أن نهاية حقبة صالح قد توفر للبلاد فرصة لا تتكرر لتجاوز عثرات الماضي والاستفادة من تنامي تيار عاقل في جنوب البلاد يغلّب وحدة اليمن، ويقلص من نفوذ الداعمين لإنهاء الارتباط بين الشامل والجنوب. ومما يزيد من أجواء التفاؤل بشأن الحفاظ على وحدة البلاد اشتعال الخلافات بين التيارات الجنوبية، ما بين داعم لاستمرار الوحدة عبر كيان فيدرالي ويمثله كل من الرئيس اليمني الجنوبي الأسبق علي ناصر محمد ورئيس الوزراء اليمني الأسبق حيدر أبوبكر العطاس، ومؤيد للانفصال بقيادة علي سالم البيض أو تيار وطني مؤيد للوحدة تهيمن عليه شخصيات نافذة في قوى الحراك الجنوبي يقودهم ياسين سعيد نعمان، وهو التيار الذي ضاق ذرعًا بفشل توافق قادة الجنوب حول مطالب محددة قبل تدشين طاولة الحوار الوطني. ولا تتوقف التحديات التي تجابه حكومة هادي عند هذا الحد، فالتوتر المتفاقم في صعدة، وتعالي الأصوات هناك مطالبة بإعادة النظر في العلاقة مع المركز في صنعاء، ووجود أجندات إقليمية تقف وراء هذا التمرد، سيجبر الحكومة اليمنية على ضرورة التعاطي من منظور سياسي مع هذه الأزمة والابتعاد على التعامل معها باعتبارها أزمة أمنية، بل إن هناك إشكالية تفرض ضرورة تقديم السلطة مشروعًا سياسيًا واقتصاديًا وتنمويًا شاملًا يعالج جميع المشكلات في صعدة بشكل يفكك عناصر الأزمة ويفتح الباب على مصراعيه أمام تسوية سياسية تضمن الاستقرار في هذا الجزء المهم في شمال اليمن، ويؤمن دورًا سياسيًا لأبنائها في صناعة القرار، ويسدد رصاصة الرحمة على سيطرة قوى قبلية بعينها على السلطة والثروة في اليمن الجديد. خطر داهم الأزمة في الجنوب والتمرد في صعدة ليسا كل القنابل الموقوتة الواجب على الحوار الوطني نزع فتيلها، بل إن هناك تحديًا كبيرًا ينبغي الوصول لتسوية سياسية عاجلة له، ويتمثل في تصاعد نفوذ تنظيم القاعدة في جنوب البلاد، وهو نفوذ لم يسبق للقاعدة أو فلولها تحقيقه في أي بلد في العالم، لدرجة أن مراكز دراسات استراتيجية دولية تعتبر أن مخاطر القاعدة في اليمن تفوق نظيرتها في باكستان، غير أن هذا الخطر ينبغي مواجهته عبر مشروع سياسي متكامل، يحظى بدعم جميع ألوان الطيف السياسي في اليمن، باعتبار أن الشراكة الوطنية في اليمن هي الوحيدة القادرة على تقليص نفوذ القاعدة، وقطع الطريق على أي تدخل دولي في اليمن، لدعمه في هذا الملف المعقد، خصوصًا أن واشنطن طالبت الحكومة اليمنية باضطلاعها بدور في الحرب على القاعدة، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وهو مطلب تحفظ عليه الفريق هادي بقوة تحسبًا لردود فعل شعبية غاضبة على استمرار حكومته في تبني سياسات تؤمن هيمنة الولاياتالمتحدة على المشهد اليمني في تكرار واضح لسيناريو علي عبدالله صالح. الأزمات الأمنية والتحديات السياسية المنوط بالحوار الوطني مواجهتها لا تنفي أن إنعاش الاقتصاد اليمني يمثل مشكلة معقدة للحكومة الحالية، في ظل وصول نسبة البطالة لما يقرب من 50%، وتهديد الفقر لأكثر من 40% من الشعب، وتجاوز الأمية لأكثر من 60%، وهي مشاكل لن يفلح الدعم الدولي والإقليمي في توفير حلول جذرية لها، لاسيما أن التمويل الذي وفرته الجهات المانحة وأصدقاء اليمن أخفق في السابق بسبب عدم وجود إدارة واعية تستطيع توظيف هذه الأموال للخروج بالاقتصاد اليمني من عنق الزجاجة، وإحداث نقلة نوعية تبتعد بالبلاد عن نهج البيروقراطية التي كبلت اليمن طوال الثلاثين عامًا الماضية، وحولته لواحدة من أفقر البلدان العربية. وفي هذه الأجواء الملتهبة داخل اليمن ينبغي على القوى الوطنية اليمنية وهي على أعتاب الحوار الوطني، أن تتعاطى مع الملفات اليمنية المعقدة، وفق قراءة جديدة لهذه الأزمات، تنهي حالة التقاتل التي سادت المشهد منذ عقود، وتؤسس لحالة من التفاعل والشراكة الوطنية، بوصفها السبيل الوحيد لإنجاح الحوار الوطني، وصياغة حالة من الالتفاف حول مشروع وطني يؤهل البلاد لبناء تجربة ديمقراطية وحدوية تحافظ على كيان موحد لليمن، سواء عبر الفيدارالية أو وضع أقرب للحكم الذاتي يحافظ على حقوق المحافظات دون أن تنتقص من دور المركز في صنعاء بشكل يبعد البلاد عن الانزلاق في الفوضى والاضطراب، ويوفر فرصة لمواجهة باقي الملفات الساخنة، وهي إمكانية متاحة إذا خلصت النيات، وتبنى الجميع مشروعًا وطنيًا يؤسس لبناء دولة حديثة قائمة على المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان. المصدر: الإسلام اليوم