((باسم الإسلام الذي جاء بأحكم دستور حقق عزة العرب ومجد الإنسانية ، وباسم الشعب الذي أمطرنا وابلاً من البرقيات والخطابات ، نرجو ملحين في الرجاء أن يَنص الدستور على أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام ،وأن تستمد منه القوانين والتشريعات التي تنظم حياتنا الجديدة على أساس العلم والعمل والإيمان والأخلاق )) المسطر بعاليه ليس من بنات أفكار كاتب هذا المقال ، وإنما هو نص رسالة بعث بها الإمام الراحل الشيخ محمد الفحام رحمه الله إلى مجلس الشعب ،نشرتها جريدة الأخبار في 2/ 6 / 1971 ، وذلك إبان إعداد الدستور الدائم لمصر ، وهو يطالب فيها بما طالبت به أكثرية الأمة في تلك الفترة من الرجوع لشريعة الله تعالى ، وقد ظهر ذلك جلياً في جولات اللجنة المكلفة بإعداد ذلك الدستور في ربوع مصر لاستطلاع آراء المواطنين ،حيث كان المطلب الأول الذي تطالب به اللجنة في كل مكان هو النص على أن تكون الشريعة الإسلامية مصدر التشريعات والقوانين كما أقر بذلك رئيسها الأستاذ حافظ بدوي رحمه الله في أكثر من مناسبة. وللحق فلم يكن هذا موقف الشيخ الفحام وحده ،بل إن مجمع البحوث الإسلامية كان قد دأب منذ ستينات القرن الماضي على أن ينص في قراراته على وجوب استمداد التشريعات والقوانين من الشريعة الإسلامية الغراء ، ففي مؤتمره الثالث عام 1386ه- 1966م ناشد المجمع ( السلطات ذات الاختصاص في مختلف الدول الإسلامية أن تعمل على تنقية تشريعاتها ونظمها من كل ما يخالف حكم الإسلام وأن ترد هذه التشريعات والنظم إلى كتاب الله وسنة رسوله ) وفي مؤتمره الخامس عام 1389ه - 1970م نص على أنه ( يؤكد ما قرره في دوراته السابقة من وجوب اتخاذ الشريعة الإسلامية أساساً للتشريع في الأمة الإسلامية )، وفي مؤتمره الثامن عام 1397ه- 1977 م يقرر المؤتمر ( وجوب العمل الجاد من أجل تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ،وفي جميع البلاد الإسلامية في المعاملات والعقوبات وفي جميع فروع هذه الشريعة ). ولقد أثمرت تلك المطالبات العديدة أن نُصَّ في دستور 1971م على أن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع ، ثم عدل النص في عام 1980م إلى ( المصدر الرئيسي ) وهو ما يعني وجوب النظر في كل القوانين السابقة وتنقيتها مما يخالف الشريعة ، بل لقد كان الدكتور صوفي أبو طالب يرى أنه حتى صيغة ( مصدر رئيسي ) كافية في وجوب البدء في تعديل القوانين بما يوافق أحكام الشريعة ، وقد سمعت منه ذلك مراراً أثناء تشرفي بالتتلمذ على يديه في معهد الدراسات الإسلامية ، ومن أجل ذلك قام رحمه الله أثناء رئاسته لمجلس الشعب -بتوجيه من الرئيس السادات - بتشكيل ثماني لجان للقيام بتلك المهمة العظيمة ، وقد كان من أعضاء تلك اللجان ثلة كريمة من علماء الأزهر على رأسهم فضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق رحمه الله الذي كان وقتها مفتياً للجمهورية ، وقد بدأت تلك اللجان عملها أواخر عام 1978م - أي قبل التعديل الذي نص على أن مبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع - وأتمت عملها في صيف عام 1982م ، ولكن كان المناخ السياسي قد تغير ،ولم يعد الحاكم الجديد راغباً في تطبيق الشريعة ، فحال ذلك دون إقرار تلك القوانين فظلت إلى اليوم حبيسة أدراج البرلمان . لماذا أسرد هذا التاريخ الآن ؟ أسرده لكي أبرهن على بدهية كان الأصل أنها لا تحتاج إلى برهان ،ألا وهي أن شريعة الله تعالى ليست مطبقة في بلادنا ، أو على الأقل يوجد فيما نُحكَم به الكثير من القوانين المخالفة لشرع الله تعالى ، وإلا فكيف تكون الشريعة مطبقة ، ثم تصدر تلك النداءات كلها لتطبيقها ،ثم تشكل اللجان المتعددة من أجل السعي لتطبيقها وهي مطبقة بالفعل ؟ أما مناسبة تقرير هذه البدهية فهو ما نشرته صحف الصباح يوم الإثنين ( 27 ربيع الأول 1438ه - 26 / 12 / 2016م) حيث فوجئنا بتصريح على لسان فضيلة مفتي الجمهورية يذكر فيه أن مصر تحكم بالشريعة ،وأن المتطرفين هم الذين يزعمون غير ذلك ، وقال بالحرف الواحد - بحسب ما نشرته جريدة الشروق - : ( هذا الاتهام لا أساس له من الصحة ، وهؤلاء لا يفهمون الشرع بمعناه الحقيقي ) . وقد ذكر فضيلته في معرض برهنته على ما ذهب إليه أن الشريعة : إيمان وأخلاق وعمل ، ثم ذكر أن هذه الأمور الثلاثة موجودة بمصر ، فالإيمان موجود بدليل أن الشخص قد يفعل المنكر ،ولكنه إذا سمع إساءة إلى رسولنا الكريم فإنه يغضب ويدافع عنه بقوة لأنه مؤمن ، والأخلاق أيضاً موجودة في بلادنا بغض النظر عن التصرفات غير الأخلاقية للبعض ، وكذلك العبادات موجودة في مصر وليس عليها قيود ،وأن أهل مصر يحجون ويعتمرون ويؤدون الزكاة إلخ ما ذكر فضيلته أو نسب إليه . وأقول : إننا بداية لا نسلم بكل ما جاء في هذه الجزئية وما فيها من توصيف للواقع بصورة وردية جميلة ، ذلك أن الجوانب السلبية في كل ما ذكر موجودة أيضاً ، فهناك الكثيرون ممن ينتسبون للإسلام لا يغارون على الرسول صلى الله عليه وسلم ،بل منهم من يسب الدين ،ومنهم من يتعدى على مقام النبي صلى الله عليه وسلم كما رأينا من بعض المسؤولين السابقين ، وهناك من المسؤولين الحاليين من يقول بأن مصر ليست متدينة بالفطرة وإنما هي علمانية بالفطرة ،بل إن الإلحاد بدأ ينتشر بصورة مفزعة في الجامعات وغيرها ، وكذلك جانب الأخلاق فيه من المخالفة لشرع الله ما فيه ، ولقد فحشت التصرفات غير الأخلاقية وكثرت بصورة لا ينكرها إلا مكابر ،حتى إنه لو قال قائل إن الجوانب السلبية في أخلاقنا قد صارت هي الأكثر شيوعاً لما كان مجاوزاً للحد ، وقل مثل ذلك في جانب العبادات ، ومع ذلك فإن الذي يعنينا الآن هو بيان أنه رغم أهمية العقيدة والأخلاق والعبادات الفردية وأنه لا يجوز التهاون فيها ،إلا أن من يتحدث عن الشريعة ووجوب التحاكم إليها إنما يقصد مسؤولية أولياء الأمور في تبني أحكام الشريعة في الأمور العامة بحيث يُلزَم المسلمون بالتحاكم إلى شريعة ربهم في كل قضاياهم : في المعاملات المدنية والمالية والجنايات وغير ذلك ، بل حتى في جانب العبادات : أي في إلزام الناس بها ومعاقبتهم على تركها ، فهل هذا الجانب موجود أم مفقود يا فضيلة المفتي؟ وإذا كان الاتهام الجاهز لكل من قال بأن ذلك غير موجود أنه من الجماعات المتشددة والمتطرفة ،فمعنى ذلك أن الشيخ الفحام والشيخ جاد الحق رحمهما الله تعالى وغيرهما من المشايخ العظام كانوا أيضاً من المتشددين المتطرفين، لأنهم بسعيهم إلى تقنين الشريعة كانوا يرون أن جوانب كثيرة من الشريعة غير مطبقة في مصر . بل إننا نقول إنه لو كان الإيمان بمعناه الصحيح مستقراً في القلوب لظهر أثر ذلك جلياً في تحكيم شريعة الله في كل صغير وكبير ؛ ذلك أن تدبر كتاب الله تعالى لا بد وأن يوصلنا إلى حقيقة مهمة وهي أن غياب تحكيم شرع الله دليل على خلل في الإيمان ، فالله تعالى يقول : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ) [ النساء : 65] . يقول الإمام ابن كثير في تفسيره (1/521) : (( يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحكِّم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد إليه ظاهراً وباطناً )) . فهل نحن حكمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما شجر بيننا ؟ أم تحاكمنا في كثير من أمورنا إلى شرائع مستوردة ما أنزل الله بها من سلطان ؟ والله تعالى يقول : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً )[النساء : 59] ، فهل نحن نرد كل منازعاتنا إلى الله ورسوله ؟ أم نرد البعض إليهما والبعض الآخر إلى غير هما ؟ ففي هذين الموضعين وفي غيرهما نلحظ الربط الواضح بين قضايا الحكم بما أنزل الله وقضايا الإيمان ، وإن كان ذلك لا يعني بطبيعة الحال التجرؤ على تكفير الأشخاص بغير حجة بينة ودليل قاطع . يا فضيلة المفتي : أنت أعلم منا بأن في بلادنا قوانين تبيح الربا صراحة بل تلزم به كما في المادة ( 226) من القانون المدني التي تنص على أنه : (( إذا كان محل الالتزام مبلغاً من النقود ،وكان معلوم المقدار وقت الطلب وتأخر المدين في الوفاء به كان ملزماً بأن يدفع للدائن على سبيل التعويض عن التأخير فوائد قدرها أربعة في المئة في المسائل المدنية ، خمسة في المئة في المسائل التجارية )) ،كما تنص المادة (228) مدني على أنه : (( لا يشترط لاستحقاق فوائد التأخير أن يثبت الدائن ضرراً لحق به من هذا التأخير )) ، كما أن القوانين في بلادنا لا تعاقب الزاني إلا إذا كان متزوجاً وزنى في منزل الزوجية فقد نصت المادة 277 من قانون العقوبات على أن : (( كل زوج زنى في منزل الزوجية وثبت عليه هذا الأمر بدعوى الزوجة يجازى بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر )) ، ومعنى ذلك أنه حتى في هذه الحالة فإن جريمة الزنا إنما هي جنحة لا جناية ، كما أن الزنا إذا وقع من الزوجة برضا زوجها فإنه لا يعد جريمة يعاقَب عليها لأن المادة 273 من قانون العقوبات تنص على أنه : (( لا تجوز محاكمة الزانية إلا بناء على دعوى زوجها ... )) . إلى غير ذلك مما يعرفه كل من خبر هذه القوانين ودرسها. وبعد : فقد كان المأمول من أهل العلم والدين أن يقوموا بما أوجبه الله عليهم من النصح للأمة كافة – حكاماً ومحكومين- بالرجوع إلى شرع الله تعالى وتحكيمه في كل أمورهم ، لا أن يكون همهم تبرير الواقع والدفاع عنه كيفما كان ، فإلى الله نشتكي غربة الحق وأهله ،وإنا لله وإنا إليه راجعون. عبد الآخر حماد 29/ 3/ 1438ه - 28 / 12 / 2016م