لا خلاف بين كثير من الكتاب و الباحثين و الساسة و المفكرين على أن تجديد الخطاب الديني بات أمرا ملحا وضروريا لتجاوز حالة التراجع الحضاري و التخلف التكنولوجي الذي تعانيه الأمة منذ قرون . و هذا التجديد ليس ضرورة مجتمعية وسياسية فقط بل هو أمر شرعي كذلك ، فلقد تناولت بعض الأحاديث فكرة تجديد (الدين) أو تجديد الخطاب الديني بلغة عصرنا :" إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" . و لفظة )من( هنا لا تعني فردا واحدا ، بل ريما من الجائز أن تكون مجموعة من الأفراد كما أشار إلى ذلك بعض الفقهاء . وهذا التجديد ليس مقصودا به تجديد (النصوص الدينية) ، لكن المقصود هو تجديد المنتج الثقافي و الفكري و المعرفي لهذه النصوص ، لأن قراءة النص الديني تختلف و تتغير بتغير الزمان و المكان ، فهي في حالة صيرورة و تحولات دائمة تابعة للواقع المتجدد ، والذين لا يحترمون فكرة التجديد و يتعاملون مع الواقع بنص واحد و بقراءة قديمة ، يدهسهم هذا الواقع تحت عجلات التغيير المستمر . ولقد حدثت معارك كثيرة في القرن التاسع عشر - مع الصدمة الحضارية التي أفرزتها الحملة الفرنسية بين تيار التجديد و التيار المحافظ حول دور الدين فيما أصاب هذه الأمة من تراجع علمي و نهضوي. لقد كان الخطاب الديني الذي تبناه بعض الفقهاء في تلك الآونة شكليا يستند إلى (الدروشة) و تجاهل سنن و قوانين الخالق في الأخذ بأسباب العلم والقوة , وليس أدل على ذلك من الدعاء الشهير الذي ردده بعض الأزهريين و المصريين في مواجهة مدافع الحملة الفرنسية : " يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف" . لقد لخص هذا الدعاء أو الخطاب السبب الرئيس في تخلف هذه الأمة لعدة قرون وهو إساءة توظيف الدين ، فالكسل و الخمول و البطالة هي (قضاء الله وقدره )، و لابد من (الرضا ) بهذا القضاء ، ولابد من (التوكل ) على الله ( والدعاء السلبي) الذي يهمل فكرة المقدمات و النتائج الأسباب و المسببات، و غير ذلك من المصطلحات الانتهازية و الخرافية لتبرير التخلف الحضاري. و لذلك فإنني ألتمس بعض العذر لتيار التجديد الذي تعامل بتشنج مع الدين و النصوص الدينية كرد فعل على هذا المنتج الثقافي المتهافت الذي أنتجه بعض المشايخ ، و أصروا على نشره و الترويج له. لكن في المقابل ، كانت هناك دروشة علمانية في مواجهة الدروشة الدينية ، فلم يقدم أكثر العلمانيين الخطاب الذي كانت تنتظره الأمة الباحثة عن التقدم .. الخطاب الذي يستند إلى تحرير العقل من خرافة الفهم الخاطئ للدين ، و الأخذ بأسباب التقدم العلمي ، وبناء دولة المؤسسات , فجاء الخطاب العلماني في كثير من كتابات ما يسمى بجيل الرواد ( أحمد لطفي السيد ، قاسم أمين ، وسلامة موسى وغيرهم ) بعيدا عن جوهر قضية التقدم ، و كان هناك إصرار على إقحام حرية المرأة و التخلي عن حجابها بطريقة استفزازية ، وهي دروشة لا تقل خطورة عن دروشة (رجال الدين). وقد استمر هذا الصراع العبثي بين التيارين إلى الآن ، فنجد بعض متصدري المشهد من التيارين يصر على فكرة إبعاد القضية عن مركزها الأساسي ، فيتم التحرش بالصحابة باسم تجديد الدين ، ويتم التهكم على الشعائر الدينية (الأضحية ) من كاتبة سطحية باسم التجديد ، وتوجه الشتائم لكبار الأئمة من أنصاف المتعلمين باسم الدين ، وبذلك انحرفت فكرة التجديد عن مسارها الصحيح ، وتحولت إلى نوع من العبث و الفوضى . و لذلك إن أرادت الدولة - بحق – تجديد الخطاب الديني ، فعليها أيضا أن تتبنى فكرة تجديد الخطاب العلماني ، وأن نضع معا ( الدولة و الشعب) برنامجا تنويريا حقيقيا له بعض الملامح الآتية : احترام حرية الفكر و الرأي لا تعني ازدراء و احتقار الرموز الإسلامية أو الرموز الدينية بشكل عام ، لأن ذلك من شأنه أن يثير معارك عبثية لا تنتهي بين الفعل و رد الفعل و بين الهجوم (على ) و الدفاع( عن) . لا قيمة علمية ولا حضارية جراء الهجوم على بعض أشكال الملبس (كالنقاب و الحجاب) حتى بعيدا عن بعدها الديني ، فهي على الأقل حرية شخصية ، أما وصف المرأة التي ترتديه بالتخلف و الرجعية ، فسوف يقابل بهجوم مقابل و مضاد ،فيدور الجميع في حلقة مفرغة كما يحدث الآن . عدم التعرض للتراث الديني بهذا الاستفزاز ، فهو منتج بشري يفسر في سياقه التاريخي و المجتمعي ، و هو تراث عريق في وقته ، أما محاكمته بمنظور عصري من أشخاص غير مؤهلين ، فهو أمر يشكل خطرا على النسيج المجتمعي. التركيز على القيم الإنسانية الكبرى من حرية و إبداع علمي و عدالة اجتماعية و تقدم صناعي و تعليمي ، بدلا من الدخول في تفاصيل جزئية (و الشيطان يسكن في التفاصيل). تنقية الإعلام من شوائب بعض الطفيليين الذين شوهوا عراقة الإعلام المصري بهذا الإسفاف الواضح ، و تغيير الوجوه القديمة التي تصر على شغل الرأي العام بقضايا تافهة ، وتقديم مثقفين حقيقيين و علماء كبار في مجالات الطب و الهندسة و الفلك و الكيمياء ليقودوا مسيرة التقدم الحقيقية ، فالشعر و الأدب و الإبداع ليس كافيا وليس هو القضية المركزية ،و خصوصا إذا كان متصدرو المشهد من أنصاف المواهب الذين لا علاقة لهم بفكرة النهضة و المشروع الحضاري. و في النهاية ، فما زال لدينا بعض الأمل في أن تتخذ الدولة بعض الخطوات الإيجابية لبدء مسيرة تجديد الخطاب الديني و العلماني معا . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.