النقد الداخلى للنصوص علم من العلوم الدقيقة، التى تحتاج إلى عبقرية وإلى تنوع فى الثقافات والتخصصات، ومن أشهر الميادين التى استخدم فيها هذا العلم مقارنة الأديان ونقد النصوص الأدبية ونصوص التاريخ وفى ثقافتنا العربية الحديثة كان الإمام محمد عبده 1266-1323 ه 1849-1905م الرائد فى وضع معايير نقد النصوص، وفى تطبيق هذه المعايير فعندما كان منفيًا بعد احتلال الإنجليز لمصر 1882م نقدو أثناء إقامته ببيروت سئل عن صحة نسبة كتاب (فتوح الشام) للواقدى 130-207ه 747-823م فنفى صحة هذا الكتاب للواقدى وقدم الحيثيات التى تمثلت وما زالت تمثل المعايير القواعد لعلم نقد النصوص، ولقد نشر حوله ذلك دراسة فى صحفية ثمرات الفنون البيروتية 264 رمضان 1303ه يوليو1884م جاء فيه: إننى لو حكمت بأن هذا الكتاب مكذوب على الواقدى مخترع النسبة إليه لم أكن مخطئا، وذلك لأن الواقدى كان من أهل المائة الثانية من الهجرة، وكان من العلم بحيث يعرفه الخليفة المأمون ويواصله والكاتبة وصاحب هذه المنزلة فى تلك القرون إذا نطق فى العربية فإنما ينطق بلغتها قد كانت اللغة لتلك الأجيال على المعهود فيها من متانة التأليف وجزالة اللفظ وبداوة التعبير. والناظر فى كتاب الواقدى ينكشف له بأول النظر أن عبارته من صناعات المتأخرين فى أساليبها وما ينقل فيها من كلام الصحابة مثل خالد بين الوليدة وأبى عبيدة وغيرهم لا ينطق على مذاهبهم فى النطق بل كلما دقق المطالع فى إحناء قوله يجد أسلوبه من أساليب القصاصين فى الديار المصرية من أبناء المائة الثامنة والتاسعة ولايرى عليه لهجة المدنيين ولا العرافين والوقدى مدنى المنبت عراقى المقام. ومثل هذا الكتاب كتب كثيرة كقصص الأنبياء المنسوب لأبى منصور الثعالبى وكثير من الكتب المتعلقة بأحوال الآخرة أو بدء العالم أو بعض حقائق المخلوقات المنسوبة إلى الشيخ السيوطى وقصص رويات تنسب إلى كعب الأحبار أو الأصمعى ومن شاكلهما ممن عرف بالرواية فأولى الناس بالنسبة إليهم من غير تفريق بين صحيح وباطل فجميع ذلك مما لا اعتداء به عند العلماء ولا ثقة مما يندرج فيه. هكذا ارتاد الإمام محمد عبده علم نقد النصوص فى عصرنا الحديث معتمدا على: 1- معيار ثقافة لغة العصر الذى عاش فيه ينسب إليه النص فالكتاب المنسوب إلى الواقدى لغته هى لغة القرن الثامن أو التاسع الهجرى بينما الواقدى قد عاش فى القرن الثانى. 2- ومعيار ثقافة المؤلف اللغوية والأدبية فمثل الواقدى فى لغته وأدبه لا يكتب هذا الأسلوب. 3- ومعيار البيئة اللغوية للمؤلف وبهذا المعيار حكم الأستاذ الإمام بأن كتاب (فتوح الشام) هو من أساليب القصاصين فى الديار المصرية، وليس من ثمرات البيئة اللغوية والأدبية، حيث لو ولد الواقدى ولا للعراق حيث أقام. 4- معيار اللغة والأدب بالنسبة لمن تروى لهم النصوص المقتبسة فى الكتاب وتنسب إليهم فيه الأقوال والأحاديث مثل ما هو منسوب إلى خالد بن الوليد وأبى عبيدة الجراح فى فتوح الشام مما لا يصدر عنه مثلهم بعد معرفة لغتهم وأسلوبهم فى ضوء اللغة وأسلوب العصر الذى عاشوا فيه وإذا كان الإمام محمد عبده قد ارتاد ميدان علم نقد النصوص فى عصرنا الحديث فإن ما قاله علماء الحديث عن الرواية ونقد المتن إنما يمثل عرشا عظيما فى هذا الميدان.