وإذا كانت الشعوب وهى تحتاج للإبداع الذاتى بعد فترة التكوين الأولى، التى تستلزم التواصل والنقل - مرحلة الطهطاوى - قبل أن تأتى مرحلة النقد والإضافة – مرحلة محمد عبده - فقد كانت جهود الشيخ عبد المتعال الصعيدى تمثل بحق مرحلة إبداع ذاتى غير متأثر بفكر غربى وافد، فى تأصيل فكرى جديد لقضية الحرية الفكرية والحرية الدينية فى الإسلام – وهما عنوانا كتابين له – تعد تأسيسًا للحظة انطلاق جديدة فى الوعى بالذات، أرى إرهاصاتها تلوح فى الأفق. ويجب أن تكون رؤية الشيخ الصعيدى عن الحرية الفكرية والدينية، كرؤية رحبة تعتمد على تأصيل القضية بعيدا عن المواقف المسبقة، كما أنها ليست تكرارا لآراء سابقة، أو ترديدا دون وعى لما هو مألوف وثابت لدى أسلافنا، حول قضية حرية الفكر والاعتقاد، ولو كان فكر الشيخ عن الحرية، قد لقى ما يستحق من تقدير وعناية فى فكرنا المعاصر، لجنبنا الكثير من المعارك الوهمية، التى لم تنتج سوى مزيد من تمزيق وحدة الصف، والتراشق اللفظى المسف، والتجاذبات والخلافات التى استنفدت جهودا، وسالت من أجلها دماء غير زكية، وتطايرت على إثرها شظايا الوهم فى كل اتجاه. وهذا ما يعكس حيرة مجتمع ممزق، أكثر مما يعكس حيوية فكرية ورؤى محددة، تجلت بوضوح فى مجموعة من الأحداث المؤسفة، مثل قضية نصر حامد أبو زيد، ورواية وليمة لأعشاب البحر، وغيرها من الموضوعات التى سودت حولها عشرت الأطنان من الورق، لم تستحق مع الأسف ثمن الورق الذى سود فيها، ولا الأحبار التى سالت عليها، ولم يكن أحد ممن أثار غبار هذه المعارك، يبغون وجه الله، ولا مصلحة المجتمع، ولا خدمة البحث العلمى، وإنما كانت مواقف أيديولوجية وعصبية قبلية أولا وقبل كل شىء، حتى وإن حسنت نوايا بعض من شارك فى تلك المعارك، لأن كثيرا من النوايا الحسنة، أضرت ولم تصلح، فالدبة التى قتلت صاحبها، كانت تريد له نوما هادئا بعيدا عن طن الذباب.! لقد ذهب الشيخ الصعيدى إلى حق الإنسان فى الإيمان بالله، وفى حقه فى النكوص عن هذا الإيمان، دون أدنى مسئولية جنائية ولا اجتماعية تلحقه نتيجة ذلك، فكان جريئا فى مناقشة قضية الردة، التى انتهى فيها لرأى واضح، وهى أن الجزاء فيها دينى، فقط أمره لله سبحانه وتعالى، وأن ما جاء فى القرآن عن الردة لا يستوجب القتل، وفند الآراء المخالفة، وانتهى إلى أن جزاء المرتد يكون أخروى فقط، أما فى الدنيا فيدعى للإسلام كما يدعى غير المسلم وفقط، كما أكد على أن الحرية والمساواة، حق لجميع أبناء الوطن بغض النظر عن دينه أو اعتقاده. وذهب إلى أن الإسلام جاء ليؤكد على الحرية، التى حولها بعض الحكام لاستبداد، وذهب علماء السوء لتبرير هذا الاستبداد، الذى يتناقض صراحة مع جوهر الإسلام، الذى جاء لتحرير الإنسان من القيود التى تعوق مسيرته وحريته، كمخلوق حر له حريته الكاملة فى التعبير عن رأيه وفكره، وفى حريته فى اختيار دينه، كما له حريته فى اختيار حاكمه، وفى نقده ومعارضته متى ثبت له خطأ الحاكم أو من يمثله، دون قيد أو شرط يهدد حياة الإنسان. فى هذا السياق يمكن فهم وثيقة الأزهر عن الحريات فى هذا الوقت العصيب والمفصلى من تاريخ ثورتنا التى تفجرت ضد الاستبداد وأن هذه الوثيقة ليست بدعا ولا جديدة على الأزهر ورجاله الذين ساهموا بقوة فى ثوراتنا الحديثة والمعاصرة ضد الاستبداد منذ عمر مكرم ورفاقه من رجال الأزهر فى ثورتهم على الوالى التركى وتنصيبهم لمحمد على واليا على مصر وثورة عرابى ضد الخديوى واستبداده ومشاركة محمد عبده وشباب الأزهر فيها وثورة م1919م بقيادة الشيخ الأزهرى سعد زغلول فوثيقة الأزهر عن الحريات فى المجتمع هى اجتهاد فكرى فى سياقها الطبيعى واستمرار لهذا التراث الثرى من الاجتهاد الفكرى الحديث والمعاصر للأزهر ورجاله منذ رفاعة الطهطاوى وحتى يومنا هذا.