حينما يصطدم الإنسان بخبر غير عادى، سواء أكان سارًا أو محزنًا قد تنتابه حالة وقتية من الذهول، يظل يهذى خلالها بكلمات غير موزونة من فرط سروره أو من فرط حزنه.. وهذه حالى الآن ليعذرنى القارئ، وقد قرأت واستمعت إلى تصريح وزير الجامعات عن المرتب الجديد، ذلك أن من دونه خرط القتاد. صبيحة نشر خبر الجدول الجديد لمرتبات أعضاء هيئة التدريس (بعد مرور أربعين عامًا على الجدول القديم)، الذى أذاعه وزير التعليم العالى بثقة مفرطة تهاذينا وهاتف بعضنا بعضًا لمناقشة الأمر، وللتأكد كم أن الوزير يعى ما يقوله، ومن الثقة التى تحدث بها، والتى لم يسبقه إليها أى وزير للتعليم العالى من قبل.. ناهيكم عن تهنئة الأهل التى تحمل فى طياتها رجاء إلى بعض التيسير. حتى أولئك الذين يعملون فى جامعات خاصة وفى الدول العربية الشرقية هاتفونا يسألون عن صحة الخبر ليلملموا حاجياتهم ويعودوا إلى قواعدهم. وانطلقت الزغاريد حيث يسكن أعضاء هيئة التدريس، وعلقت الزينات لتصل بين الشرفات، وأعدت البيوت قوائم بالمطلوب من أثاث عصرى، وكماليات، ومصيف لائق. * * * فى ذات اليوم، وقبل أن تغيب شمسه علمنا يقينا أن مكافآت اللجان الجامعية المجبورة بمرسوم عسكرى أصابها مرض فجائى، نحلها وأهزل جسدها ونزل بوزنها إلى العشر.. اللهم لطفك!.... إذا عجزت الجامعة عن صرف مكافأة بدل حضور جلسات، فهل ستقدر على الوفاء بالمرتبات التى صاح بها الوزير فى وسائل الإعلام. ولنعد إلى الوراء بضعة شهور.. تعطف المجلس الأعلى للجامعات فى يونيه من العام المنصرم على أعضاء هيئة التدريس وقرر رفع دخولهم فى صورة حافز جودة أداء، وبعد حوالى شهرين استكثر نفس المجلس ما قرره آنفًا وقرر تخفيض الحافز، مع تأخير الصرف شهرًا أو شهرين ليظل الأعضاء فى حالة انتظار وتلهف وليرضوا بما يلقى إليهم. بعد هذا كله يظهر الوزير فى وسائل الإعلام ليعلن بالتفصيل ولأقرب جنيه المرتب الحلم المرتقب لعضو هيئة التدريس، مع تحفظ خبيث بتحديد فترة ثلاث سنوات- غير معروفة البداية- لتحقيق هذا المرتب الحلم يمكن خلالها تهيئة مناخ هادئ للأعضاء لجعلهم آملين فى مستقبل وردى.. والمحتمل بدرجة غير قليلة أن الوزير لن يظل فى موقعه خلال فترة الثلاث سنوات المقبلة، ولن يكون فى مواجهة مع هيئة التدريس حال عدم تحقق الحلم.. أما الوزير الجديد فلم يعد بشىء يمكن محاسبته عليه، وسيبدأ قصة جديدة.. فالدولة لا تسير على خطط، وإنما كيفما اتفق. لم نر من قبل وزيرًا خراجًا ولاجا كوزيرنا الحالى يعلن بجسارة عن مرتبات الهيئة التدريسية دون وجل.. فلا وزير العدل, ولا وزير الاتصالات, ولا وزير البترول ولا رئيس هيئة قناة السويس يقدرون- خشية الحسد- على ما قدر عليه وزيرنا فما أعلنه محصن بتمائم لا يجدى معها حسد الحاسدين. بصراحة أشتم من إعلان الوزير رائحة استخفاف، لأنه لا يستقيم مع ما يحدث فى الخفاء من خصم مستحقات ومماطلة فى صرفها.. ثم تصل السخرية إلى مداها حين يقرر أن المرتب الحلم لن يكتمل إلا بعد ثلاث سنوات، وهى فترة لا ندرى ما قد يحدث فيها من تغيرات، فهو أذن جنين فى رحم الزمان، فهل سيلفظه الرحم سقطا أم سيكتمل نموه ويأتى إلى الدنيا.. وليس ببعيد أن تتراجع الحكومة عن وعدها لأن عواقبه غير محمودة، فالمصريون سيعودون من إعاراتهم العربية وتفقد مصر تحويلاتهم من العملة الصعبة، وسيعود معارو الداخل إلى الجامعات والمعاهد الخاصة إلى مواقعهم وستتحمل الدولة مرتباتهم وحصص معاشهم. هذه ليست دعوة إلى التشاؤم، ولكن إلى الحذر فى التفاؤل.. فليس مطلوبًا التفريط فى التشاؤم ولا الإفراط فى التفاؤل.. تحسبًا لنكث العهد.. وننهى حديثنا بطرفة تعرفونها تجسد تصريح الوزير.. "قال الرجل لزوجته إنه صادف اليوم فاكهة طيبة وكان يتمنى أن يبتاع منها الكثير لولا ضيق ذات اليد.. فردت الزوجة قائلة يكفينا القليل منها، فرد عليها الزوج بقوله دعى الأولاد يأكلون"!