لعلك تقول :إنه من المتفق عليه أن واجبات ضابط الشرطة فى حفظ الأرواح والممتلكات لا سيما فى ظل الانفلات الأمنى الذى نعيشه حاليًا ؛ هى أهم بكثير من مسألة إطلاقه لحيته. وأن متطلبات المرحلة الراهنة وتحدياتها التى تواجه الأمة الآن هى أكثر إلحاحا وفرضية وإلزاما من قضية حق الضابط فى إطلاق لحيته أو نزوله على عرف العمل القاضى بحلقها. ولعلك بعد هذه المقدمة قد تخلص إلى طرح السؤال الآتى: أليس ما فعله الضباط وما أثاروه من أزمة وما افتعلوه من قضية برهانا على اهتمامهم بقشور الدين دون لبابه؟ أوَ ليس هذا دليلا على أن التدين عندنا هو فى المظهر و (الشكليات) دون الجوهر والمهمات؟ أوَ ليس هذا دليلا – كذلك- على أن الفكر الدينى عندنا ما زال يراوح فى ميادين معارك الملبس واللحية ونحوها ولمّا يتجاوزها حتى الآن؟ أوَ ليس كل ذلك يصب فى رصيد الفكر العلمانى الذى لا يلتفت إلى تلك القشور ولا يجعلها قضاياه الحيوية ؟ وجوابا أقول: دعنا نتفق على مقدمتك التى أدليت بها ، لكن النتيجة التى توصلت إليها غير لازمة لهذه المقدمة ؛ فإنه لا تلازم بين إهمال الضباط للقضايا الأمنية الملحة وبين اهتمامهم بإطلاق لحاهم ، وإنما تقع اللائمة والتبعة على من جعل هذه المقارنة والتلازمية غير الموجودة فعلا ، وقد كان من الممكن أن تمر القضية مرور الكرام ولا تسترعى هذا الضجيج الإعلامى والإثارة السياسية والمجتمعية لولا تعنت وتشدد النظام الحكومى ذى المرجعية العلمانية التى لم يتخل عنها بعد الثورة. والحق أن العقلية العلمانية هى الأكثر اهتماما وتصلبا فى التمسك بالقشور و (الشكليات) دون اللباب والجوهر . ولنا أن نسأل : أهناك تلازم بين أداء الضابط لعمله وتفانيه فيه وإخلاصه له وبين كونه حليقا ؟ وهل هناك تلازم بين إهماله عمله وتقصيره فيه وبين كونه ملتحيا ؟ إن مسألة إطلاق اللحية من عدمه بالنسبة لأى موظف كان لا تتعدى مسألة ( المظهر العام)، وهذا المظهر – أيضا- لا ارتباط فى المحافظة عليه بين وجود اللحية وعدمه، فقد يكون حليق اللحية غير مهتم بمظهره العام ومهملا فيه من حيث الملبس وغيره، وقد يكون صاحب اللحية محافظا على نظافة مظهره العام مع إطلاقها ، والواقع شاهد بذلك ولا نقاش فيه. إذن لماذا هذا الإصرار على ربط إطلاق اللحية بالإساءة إلى المظهر العام، ثم الإصرار على أن المتمسك بحق شخصى محض ، لا يخالف القانون بأى وجه من الوجوه ، مزايد ومهتم بالقشور ومقدم للقضايا الصغرى على القضايا الكبرى؟! هل التمسك بالعرف الحادث قبل عشرات السنوات فقط والمستورد إلينا من الخارج ، والذى لا يستند إلى شرع أو قانون ، ويصادم الحرية الشخصية للأفراد ، تمسك بالجوهر واللباب أم بالقشور والتفاهات؟ من الذى ضخم القضية وأعطاها فوق حقها وشغل الرأى العام بها وأضاع فيها الجهد والوقت، أهم الذين أقدموا على ممارسة حق شخصى محض يستند للشرع ويكلفه قانون الحريات العام أم الذين أبوا إلا التصدى لذلك بكل قوة، وجعلوا يربطون ويلازمون بين ما تلازم فيه أصلا؟! إن إعادة الأمن إلى الشارع المصرى والقضاء على المشكلات الأمنية الراهنة لا يقدمه ولا يؤخره كون جميع ضباط الشرطة صاروا ملتحين أم بقوا على حلق لحاهم ، فالجهة منفكة تماما فى هذه المسألة. ولكن العقلية العلمانية تصر على التمسك بالقشور التى ظفرت بها فى معاركها مع الهوية الإسلامية ، فقضية الضباط الملتحين ليست بأغرب من قضية المذيعات المحجبات اللاتى حاربتهن العقلية العلمية فى( ماسبيرو ) بلا سند قانونى أو شرعى ، بل بنفس الحجج الباردة التى نسمعها فى قضية الضباط