كثيرة هي الدلالات والملاحظات التي يمكن أن تستوقف المراقب للشأن العراقي في سياق الانتخابات الأخيرة وما أفرزته من نتائج وحراك سياسي، مع العلم أننا نكتب قبل ظهور النتائج النهائية التي لن تغير في روحية هذه السطور. أولى الملاحظات التي تستوقف المراقب في سياق الانتخابات هي تلك المتعلقة بالمشاركة الواسعة من قبل مختلف أطياف المجتمع العراقي، الأمر الذي يعكس حجم الحشد الطائفي والمذهبي في ساحة يجب الاعتراف بأنها منقسمة على نفسها على نحو استثنائي. بالنسبة للشارع الشيعي يمكن القول إن الانتخابات قد عكست حجم حضور القوى والرموز الدينية فيه، وإذا كان السيد السيستاني هو الرمز الأكبر للحالة برمتها بوصفه المرجع الأهم، فإن حضور التيار الصدري قد فاق كل التوقعات، ما يؤكد ما ذهبنا إليه في مقالات سابقة من إدراك المجلس الأعلى وحزب الدعوة لحجم حضوره ، وحرصهما تبعاً لذلك على استقطابه للائتلاف. وفي حين حصل الصدريون على حصة مساوية لحصة المجلس الأعلى بزعامة عبد العزيز الحكيم في لائحة الائتلاف، فإن حجمهم في التصويت كان أكبر بكثير، بل إن قائمة أخرى على هامش التيار الصدري حملت اسم "رساليون" قد نالت حظاً معتبراً من الأصوات. وفي العموم فإن التيار الصدري بكل تلاوينه سيشكل حالة مهمة في المجلس الجديد، فيما ينتظر منه أن يقدم طرحاً مختلفاً عن الآخرين في سياق التقليل من النكهة الطائفية في المجلس، إلى جانب دعم مسار إخراج قوات الاحتلال بحسب ميثاق الشرف الذي صاغه الصدر ووقعت عليه العديد من القوى السياسية والدينية العراقية ، من بينها هيئة علماء المسلمين، والخلاصة أن ثمة فرصة لاستعادة البريق الوطني للتيار الصدري بعد أن فقد جزءًا منه خلال المرحلة الأخيرة، لاسيما بعد موقفه من التصويت على الدستور ومن ثم دخوله في الائتلاف الشيعي. في الجانب الكردي كان هناك حشد آخر لا يقل أهمية عن الحشد الشيعي والعربي السني، وهو بالتأكيد حشد عرقي أيضاً لكن اللافت في المعسكر الكردي كان خروج الاتحاد الإسلامي الكردستاني على اللائحة التي تحالف فيها البرزاني والطالباني، الأمر الذي أدى إلى صدامات بين الطرفين، وفي حين يرى قادة الاتحاد الإسلامي أن تزويراً واسعاً قد وقع بحقهم، الأمر الذي لا يبدو صحيحاً إلى حد ما، فإن الواضح أن ما حققوه في الانتخابات هو أقل من حصتهم الانتخابية لو كان التنافس متعلقاً بقضايا الداخل الكردي، وهنا تفوقت الأبعاد القومية على الأبعاد الإسلامية، ربما بسبب القدرة على الحشد من قبل الحزبين الكبيرين، وبالطبع في سياق التناقض مع الآخر العربي!! في معسكر العرب السنة كانت المفارقة أكبر بكثير، إذ كان الإقبال كبيراً إلى حد فاجأ الكثيرين، وإن بدا متوقعاً بالنسبة للمتابعين لتحولات المواقف الشعبية في تلك المناطق، لاسيما في المناطق الملتهبة بالمقاومة ضد الاحتلال، وفي ذلك ما يعبر بالتأكيد عن ردة فعل على عمليات التهميش والاستهداف التي تعرضت لها هذه الفئة على يد الحكومة الطائفية، وحيث أدرك هؤلاء أن مشاركتهم قد تعني المساهمة في الوضع الجديد، وأقله المجيء بحكومة أقل طائفية من الحكومة الحالية. من المؤكد أن موقف هيئة علماء المسلمين الساكت على الانتخابات، والداعم ضمناً للمشاركة فيها من قبل الآخرين من دون التنازل عن سياسة الهيئة في رفض الاعتراف بالعملية السياسية تحت الاحتلال، لا شك أن هذا الموقف قد ساهم أيضاً في دعم خيار المشاركة. لكن الموقف الذي لا يقل أهمية، والذي تأثر بدوره برأي الهيئة هو ذلك المتمثل في موقف قوى المقاومة، إذ باستثناء جماعة القاعدة ومن حولها من المجموعات السلفية الصغيرة، كان موقف تلك القوى واضحاً في دعم المشاركة في الانتخابات كمسار يعضد المقاومة ولا يتناقض معها، ونعني هنا موقف الفصائل الثلاثة الكبيرة؛ الجيش الإسلامي وكتائب ثورة العشرين وجيش المجاهدين، وقد قيل إن بعض عناصر هذه القوى قد منحوا قدراً من الحماية لصناديق الاقتراع خشية الاعتداء عليها من قبل الآخرين. والحال أن ما فعلته هذه القوى إنما يؤكد تلقيها ضمانات من المشاركين في العملية السياسية بعدم التناقض معهم من جهة، إلى جانب ثقتها المطلقة بإيمان الشارع الشعبي بأن المشاركة لا تعني بحال التخلي عن مسار المقاومة ، الذي سيبقى سيد الموقف ما دامت قوات الاحتلال موجودة على أرض العراق. بالمقابل يمكن القول إن موقف القاعدة بعدم استهداف مراكز الاقتراع أو تخريب العملية الانتخابية لم يكن نتاج عجز، بل نتاج قناعة بمساوئ الاصطدام مع مجمل الشارع العربي السني ، الذي بدا راغباً في المشاركة للخروج من دائرة التهميش والاستهداف. من المؤكد أن هذا الموقف من القاعدة كان عاقلاً وواقعياً إلى حد كبير، ذلك أن الشارع العربي السني لم يقاطع الانتخابات الماضية لأن قوى المقاومة قد رفضتها فحسب، وإنما، وهذا هو الأهم لأن الشارع كان منحازاً للمقاطعة بعد اجتياح الفلوجة من جهة، ولأن هيئة علماء المسلمين قد دعته إلى ذلك من جهة أخرى، لكن الموقف هذه المرة بدا مختلفاً وصار بالإمكان الحديث عن رفد مسار المقاومة بمسار المشاركة السياسية الذي يمكن أن يساهم في تخفيف الأعباء التي يتحملها العرب السنة من جراء احتضانه للمقاومة ورجالها. كل ذلك يؤكد أن أحداً لن يكون بوسعه أن يفرض على قطاع عريض من العراقيين المسار السياسي الذي عليهم أن يختطوه، والأصل أن يكون هدف المجاهدين هو إخراج قوات الاحتلال وهزيمة المشروع الأمريكي في العراق، لأن ذلك هو الإنجاز الكبير الذي تحتاجه الأمة في هذه المرحلة رداً على المحافظين الجدد الذين كانوا يسنون أسنانهم لمطاردة الأمة بأسرها لو نجحوا في العراق. نعود إلى القول إن ما فعله المجاهدون العراقيون وغير العراقيين بعدم التخريب على العملية الانتخابية كان موفقاً، الأمر الذي سيزيد في احترام الشارع العراقي، والعربي السني على وجه التحديد لهم، وسيواصل احتضانهم والإيمان بمشروعهم في تحرير البلد من المحتلين. من جانب آخر يمكن القول إن عمليات التزوير التي وقعت بحق العرب السنة من خلال توزيع المقاعد على المحافظات، ومن خلال التصويت قد أكدت صحة توجه هيئة علماء المسلمين برفض الاعتراف بالعملية السياسية انطلاقاً من كونها تتم تحت الاحتلال وبإشراف أذنابه، فيما أكدت الأرقام والمعطيات التي توفرت أن العرب السنة يراوحون بين الربع والثلاثين في المائة من مجموع السكان. أما الاحتجاج على النتائج فلا يتوقع أن يؤدي إلى نتيجة تذكر في ظل تواطؤ الأكراد الذين زوروا بدورهم، وأقصى ما يمكن توقعه هو إصرار من طرف العرب السنة على موقفهم يؤدي إلى تنازلات ما من الائتلاف الشيعي فيما يتعلق بتشكيل الحكومة. أما بالنسبة للنتائج التي غدت شبه واضحة، وبصرف النظر عن شكل الحكومة الائتلافية القادمة ورئيسها، فإن بالإمكان الحديث عن قوى جديدة ستدخل الجمعية الوطنية مثل التيار الصدري وجبهة التوافق، وحتى إياد علاوي الذي يعلن الانحياز لوحدة العراق وللمرجعية العربية، ما يعني أن وفاء هؤلاء لشعاراتهم الانتخابية (نتمنى أن يوفوا بالفعل) سيعني مزيداً من الإحراج للأمريكيين الذين عليهم تبعاً لذلك أن يغتنموا الفرصة في ترتيب "هزيمة مشرفة" بدل أن يواصلوا المكابرة وصولاً إلى هزيمة أكبر بكثير ولو بعد حين. المصدر الاسلام اليوم