ظهر الثلاثاء 16 يوليو الجاري مررت على خبر في أحد المواقع بشأن شراء مصر 4 طائرات من من طراز "فالكون 7 إكس" الفخمة لتنقلات كبار المسؤولين في إطار عملية إحلال وتجديد في أسطول الطائرات الرئاسي، وقرأت أن قيمة الصفقة 300 مليون يورو، أي ما يعادل 3 مليارات جنيه بالسعر الرسمي لليورو. قلت ربما يكون خبرا مدسوسا، مفبركا، هدفه إثارة الغضب على السلطة بعد خطاب السيسي الأخير الذي يبشر فيه الشعب بأنه مقبل على أيام صعبة، ويطالبه بالتضحية والحرمان والتحمل، علاوة على الحكومة التي تتحدث عن إجراءات اقتصادية بعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على قرض ال 12 مليار دولار بشروط تفرض التزامات ستجعل الأوضاع في مجملها تدخل في طور آخر من القسوة. الأزمة الحالية غاية في الصعوبة، ذلك أن مؤشرات الاقتصاد تدخل مراحل الخطر من ناحية الديون الداخلية والخارجية، وارتفاع الأسعار، والتضخم، وعجز الموازنة، وتزايد الوارادات، وتراجع الصادرات، والميل الكبير للاستهلاك، وتعطل الانتاج - ولا أعلم ماهو ذلك الانتاج الذي نتحدث عنه كثيرا -، وتفاقم أزمة السياحة، وتراجع تحويلات المصريين في الخارج، وتدهور الخدمات، والتوجه لفرض ضريبة القيمة المضافة، وتزايد البطالة، والفساد، والانسداد السياسي، وغياب معارضة حقيقية تحدث توازنا مع النظام الذي يميل إلى الفردية، ويحكم حسب ما يرى هو باتخاذ القرارات بطريقة المفاجأة والصدمة دون حتى محاولة الاستماع لصوت قوى وشخصيات وطنية مخلصة، أو الاستطلاع النزيه لرأي الشعب. وقرض صندوق النقد يعد نموذجا، فقد وجدنا أنفسنا أمامه فجاة دون نقاشات مجتمعية موسعة في وصاية على الشعب، وعلى أجيال حالية وقادمة ستكون هذه الأموال ديونا عليها، حتى أيام مبارك كانت هناك معارضة، نعم كانت ضعيفة، لكن كان لها صوت، وكانت تناقش وتفند وتطرح مواقف مغايرة وتصحح سياسات ولو في صحفها. اليوم هذه المعارضة الداخلية الضعيفة إما غائبة، أو منهكة، أو متهمة لو تحدثت بصراحة، أو وجد بعضها مصالحه الشخصية في أحضان النظام الذي يعتبر نفسه مفوضا بالمطلق في اتخاذ ما يشاء من قرارات يعتبرها دوما صحيحة، وربما تتعالى مستويات التفكير لديه عن طرح أسئلة من مثل: كيف نعرف أن القرارات صحيحة دائما؟، وماذا لو كانت خاطئة؟، وكيف ننتبه إلى أوجه القصور فيها؟. ألا يتابع النظام تجارب الديمقراطيات في أي منطقة جغرافية في العالم ليرى كيف تصوب المعارضة، وحكومات الظل، والأحزاب، وجماعات التفكير، ومنظمات المجتمع المدني، والإعلام المستقل، والرأي العام، سياسات الحكومات هناك؟، هذا السلوك السياسي الديمقراطي يضمن لتلك السياسات الرضا العام عند تنفيذها لأنها تكون مدروسة ولها شعبية ومخاطرها هامشية؟. غياب الصوت الآخر، وعدم الاستماع إلى وجهة النظر الأخرى، يؤدي إلى الأوضاع المعقدة الراهنة، ومنها العودة للاستدانة من الصندوق، والبنك الدولي، والبنك الإفريقي للتنمية، وغيرها من الجهات المانحة، وإصدار السندات الحكومية، وطرح أسهم شركات ناجحة في البورصة لمحاولة إنقاذ المالية العامة، وانتشال الاقتصاد من عثرته. في خضم تلك الحالة التي يهمنا الخروج منها شعبا ووطنا بأقل الخسائر، وبعدالة في توزيع تكاليف مصاعبها على الجميع، عندما نقرأ أن الحكومة تشتري طائرات حديثة لكبار المسؤولين في تنقلاتهم فذلك حتما يثير القلق والتناقض الصارخ من كون أن من يطالبون الناس بالتحمل هم من يشترون لأنفسهم طائرات للفخامة. غياب الشفافية هو جوهر المشكلة، الخبر انتشر مثل النار في الهشيم طوال يوم الثلاثاء وحتى منتصف الأربعاء عندما خرج متحدث رئاسي مجهول متأخرا ليقول إن "رئاسة الجمهورية ليست طرفا في أي تعاقد من هذا النوع"، ثم تبث وكالة أنباء الشرق الأوسط خبرا عن بيان لشركة داسو تنفي فيه أن تكون قد باعت أربع طائرات من طراز "فالكون 7 إكس" للحكومة المصرية. هذا جيد، لكنه لا يحسم القضية نهائيا ولا يقطع بعدم وجود مفاوضات مع الشركة لشراء الطائرات، فما قاله أحمد موسى في برنامجه ليلة الأربعاء ينسف هذا النفي ويكشف جانبا كان غائبا حيث قال إن المفاوضات ما زالت مستمرة مع الشركة الفرنسية، وإن الطائرات ليست مخصصة لرئاسة الجمهورية، وهى ستدر دخلا كبيرا عند تشغيلها، وإن القوات المسلحة هي المنوطة بتوقيع صفقة شراء ال4 طائرات. هل موسى يؤلف هذا الكلام من عنده، أم أنه يقول معلومات تم إطلاعه عليها وطُلب منه أن يذكرها؟، هل يجرؤ أن يتحدث من نفسه بمثل هذه المعلومات؟، وكيف يتوصل هو لمعلومة القوات المسلحة، وهى جديدة تماما، ولم ترد في الأخبار التي نشرت عن مفاوضات الطائرات، وقد كانت الأهرام من أوائل الصحف التي نشرت خبرا عن مفاوضات مصر لشراء هذه الطائرات في شهر إبريل الماضي؟. القصة تركتها السلطة كعادتها تتفاعل دون التدخل مبكرا لحسم أمرها، وفور نشر الصحيفة الفرنسية لخبرها كان واجب أن يكون هناك توضيح يؤكد أن الرئاسة لم تتعاقد، وإذا كان الجيش هو من يتفاوض فليُقال ذلك بدلا من ترك الأمر غامضا، وللجيش حساباته وتقديراته وقراراته الخاصة لا يتدخل أحد فيها، لكن النفي تم بخجل، وبعد ساعات طويلة، ثم خرج إعلامي له علاقات مع أجهزة نافذة لنستشف من كلامه أن خبر النفي كان يقتصر على بعد واحد، ويتحدث هو عن البعد الآخر. مسألة أن مصر في أزمة مالية، وأنها يجب أن تتقشف بشكل جدي في النفقات الحكومية بالتوازي مع تحميل المواطنين نصيبهم من تبعات الأزمة لا يعني أنها لا يجب أن تنفق أمولا على كل ما هو ضروري سواء للحكومة، أو للقوات المسلحة، فالحياة لن تتوقف تماما، بل الإنفاق وقت الأزمات يكون مهما جدا لتنشيط الأسواق وتحريك عجلة الحياة بدل الركود، لكنه يكون إنفاقا مدروسا وفي مكانه الصائب. وقضية الافصاح والشفافية في سياسات وسلوكيات السلطة غاية في الأهمية في كل وقت، وفي أوقات الأزمات خصوصا، حتى تكون السلطة قدوة لمواطنيها، ويكون حديثها مُصدّق على الدوام. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.