برأسه تارة، وبكتفه تارة أخرى، حاول اقتحام الجموع المترقبة، ليحظى برؤية أفضل للمنصة الخشبية التي نصبت كوحش مهيب، يقف عليه ثلة من البائسين معصوبي الأعين. رائحة العرق تفاعلت سريعًا مع أشعة الشمس الحارقة، الصيحات تتعالى في تلذذ "اعدموا الخونة"، العروق تنتفض، والهيستيريا تصيب الجميع، العجائز والنساء والرجال وحتى الأطفال تسلقوا الأشجار ليستمتعوا بالمشهد. وأخيرًا وجد لنفسه فسحة من المكان، استطاع استبقاءها لنفسه، صوت الرجل الملتصق بكتفه أوشك أن يشج رأسه، واللعاب يتطاير من شدقه من شدة الحماس، سأله "ما الجرم؟" فأجابه "تعكير البراءة الثورية"، وأتبع إجابته ضحكة - دلت على شدة تلذذه بالأحداث القادمة - ثم نظرة إلى المقصلة التي عكس نصلها أشعة الشمس، فبدت كشمس أخرى حارقة ولكنها تكوي الرقاب عوضًا عن الوجوه. بدأ العرض، والحماسة تتزايد، وتلا الحكم شخص ما، سأله عمن يكون، فأجابه: إنه لا أحد، ثم عندما ألح في السؤال، شرح له أنه لا سلطة ولا دولة تقوم بالمداهمات وإصدار الأحكام وتنفيذ العقاب، بل يقوم بها مجموعة عادية من الأشخاص، بعد أن أصدر "روبسبيير" مجموعة فريدة من التهم، منها "ترويج أخبار كاذبة، بث روح اليأس لدى المواطنين، انتهاك الأخلاقيات، إفساد الضمير، وتعكير البراءة الثورية"، ثم سمح لأي ما كان أن يشي بجاره أو صديقه أو أي فرد من عائلته بلا دلائل أو شهود أو محاكمة، ثم ينفذ الحكم بنفسه! الآن بدأ عدد من الأشخاص في تقييد البائسين وتوجيههم تباعًا إلى المقصلة، التي أخذت في اجتزاز الرقاب، وقد اختفى صليلها وسط صيحات وتهليل الجموع المنتشية بالدماء، والتي انهمرت أنهار من الأجساد البائسة التي أضحت بلا رقاب، قبل أن تتكوم جميعها مشكلة هضبة صغيرة من الأشلاء البشرية. كان هذا مشهد من مشاهد كانت عادية إبان الثورة الفرنسية، التي عاصرت الحكم على 16 ألف شخص بالموت بالمقصلة، والتي - ويا للعجب - لاقت قبولًا لدى الجماهير الفرنسية العطشى للدماء قبل أن تتوقف، بالإطاحة بعميد الإرهاب الدموي "روبيسيير" على أيدي "تاليان" و"باراس" اللذين أطاحا به بحملة عسكرية، وأذاقاه نفس الميتة التي أذاقها لخصومه. ولكن يبقى السؤال الذي ما زال محفورًا في ذاكرة التاريخ والضمير الإنساني، ما الذي أوصل الجماهير لهذه الحالة من الدموية والسادية؟ هل هو الجوع والحرمان والفقر، الذين تمكنوا تمامًا من الشعب الفرنسي، فعانوا شظف العيش وقسوته، فلم يجدوا كسرة خبز تقيهم آلام الجوع؟ هل هو بعد القصر عما يحدث لرعيته، لدرجة أن الملكة عندما ورد إلى مسامعها أن الشعب لا يجد كسرة خبز، ردت بتلقائية، لمَ لا يأكلون معجنات أخرى؟ هل هو ظلم الطبقة الحاكمة في تقسيم موارد الدولة بين رجال الدين وبين المحظوظين من رعايا الدولة من الإقطاعيين والمرضى عنهم؟ هل هو تجاهل الطبقة الحاكمة لمشاعرهم وظروفهم الاقتصادية والمعيشية؟ أم تجاهل القصر لوجود برلمان – حقيقي – يعبر عما يجيش في صدور الشعب وليس القيادة السياسية، ويطالب بحقوقهم، وتلكؤهم في الاستماع لرغبات الشعب؟ ولمَ طالت الأحكام الشعبية، المعتدلين منهم، ممن حاصرتهم الشائعات دون دليل؟ أهو الظلم في استصدار الأحكام ضد المظلومين في قصر الباستيل وتعذيبهم، حتى إذا ما ذكر الباستيل ارتعدت الفواصل والأجساد، فلم يعد يعني الشعب أن يتلوث شرف المسفوك دمه على منصة الشعب بالخيانة والعمالة، حتى أصبح التعقل جريرة، والضمير خيانة؟ لا أحد يعلم على وجه التحديد ما الذي حول الشعب الفرنسي الراقي المحب للفنون والمصدر لكبار المفكرين أمثال فولتير، وروسو، وغيرهم من الفلاسفة، إلى شعب غوغائي فوضوي متعطش للدماء، لا يطيق الاستماع إلى صوت العقل أو الضمير، تحركه شعارات رنانة، ويطرب أيما طرب، لما يمليه عليه نخبته، الذين نحوا بدورهم ضمائرهم ولم يصدحوا إلا بما تريده الجماهير، فرفعوهم فوق الرقاب، أمثال "روبيسيير" المحامي المهذب الهادئ، الذي تحول وحول شعبه معه إلى مصاصي دماء. لا أحد يعلم تحديدًا من المتسبب في هذا، إلا أنه رغمًا عن بحيرات الدم التي طفحت على باقي الدول الأوروبية على الخارطة، إلا أن الثورة الفرنسية ستظل شعلة الحرية لكل شعوب العالم، ودرسًا مهمًا لكل الطغاة على مر العصور والأزمنة، بأن القبضة الأمنية وتجاهل قرصة الجوع لدى الفقراء، والظلم وسجن الشباب وتعذيبهم بمحاكمات صورية، والتعطش للحرية وللمساواة والعدل بين طبقات المجتمع، سيكون دائمًا وأبدًا المحرك الحقيقي والشرارة الأقوى لأي ثورات.. دموية.