أكد القرآن الكريم أن أعظم أسوة وقدوة لنا هو نبيّنا صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، وحينما كنا فى دار العلوم فى محاضرة مع أستاذ لغوى رائع وهو شيخنا الدكتور إبراهيم ضوّة حفظه الله سألنا عن جمع كلمة "أسوة" فظللنا نفكر فيها مليًا حتى توصلنا لها بصعوبة بالغة، ثم قال: لعل جمع هذه الكلمة غير مطروق سماعه لأن الأسوة بطبعه لا يكون إلا فردًا واحدًا فى مجتمع ملىء بالملايين، وهو تحليل لا زلت أتذكره وأراه عبقريًا بكل المقاييس لأنه يربط بصورة فذة بين ألفاظ اللغة العربية ومدلولاتها فى الواقع بدقة بالغة! ولا زلت كذلك أتذكر قول مسئولى فى جماعة الإخوان المسلمين – حينما كنت فيها – وتكراره فى جلسات متعددة قول رسولنا صلى الله عليه وسلم الذى رواه الإمام البخارى ومسلم فى صحيحيهما: "إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة" فى تشبيه بليغ يصف حقيقة الناس كل الناس فى هذه الدنيا! إن أشد ما يصيب المتابع لأحداث هذه الأيام وقبل الثورة هو إنزال هذه المعانى القاطعة بتفرد الأسوة، وندرة وجوده؛ والتأكد من ذلك على وجه اليقين فى هذا الواقع؛ وإننا إذا قلبنا لنسمع أشياخ الفضائيات أو القيادات الحزبية والدعوية لا نراهم فى مجملهم – إلا من عصم الله - إلا ممن يرون الواقع بصورة مرعبة لا يترتب عليها إلا حكمًا "شرعيًا" غير صحيح أو تطبيقًا شائهًا لا يحقق ما نرجوه، ولا يوصلنا لغايتنا، ولست فى هذه الخاطرة السريعة بصدد الرد على سقطات هؤلاء وأولئك؛ فقد لا أكون خيرًا منهم وهم عند الله أجل وأعلى. لكن هذه الإشكالية قديمة قدم هذه الحضارة، وقد رآها بعض عظماء العلماء فى التاريخ الإسلامى سبب شقائنا وتخلفنا؛ فمثلا نرى الإمام ابن رشد الحفيد فى كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" ينعى مقلدى عصره من الفقهاء الذين يُضيقون واسعًا، ولا يميلون عن قول الأقدمين، أو يُسقطون الأدلة الشرعية فى غير موضعها لأنهم لا يفهمون الواقع ومستجداته؛ أو لأنهم يرونه ولقلة بضاعتهم فى العلم لا يملكون الأدوات الاجتهادية والعلمية للوصول إلى الحكم الشرعى الذى يتواءم مع نوازل الواقع ومستجداته ويصلون لحله، وهذا ما نراه فى هذه الثورة التى كشفت لنا عن معدن وعلم عشرات من الدعاة والقيادات والرموز المحسوبة على التيار الإسلامى. إنه ليؤسفنى أن أرى بعضًا ممن يُطلق عليهم علماء يخرجون بأحكام شرعية منبتة عن الواقع، كتلك التى اهتمت بملابس الفتاة المسحولة ولم تهتم بمن عرّاها، أو تلك التى تتناول قتلى مجزرة بورسعيد هل هم شهداء أم لا ولا تهتم بمن قتلهم ولا تسعى لمعرفة الحقيقة من مظانها أو من يرون أن الرئيس التوافقى هو الأفضل لأن هذا سيطمئن الغرب والأمريكان، ونسوا أنهم هم إسلاميون من المفترض أن يخاف منهم الغربى والأمريكى كما سيخاف من الرئيس الإسلامى إلا أن يكون الرئيس إسلاميًا من نوع غير نوعهم، وغيرها من الآراء التى تصب كلها فى غاية واحدة تتمثل فى تضييع اللحظة الثورية بحجة سحب الذريعة من الجانى كيلا يرتكب جرمًا أو لنظهر أمام الآخرين بمظهر المثالى، وهى مثالية تضيع اللحظة الفارقة وتهتم بالظاهر والعَرَض على حساب أصل المصيبة وتطهير البلد وإنجاح الثورة والقضاء على المفسدين الحقيقيين فيها؛ وكأن الجسارة أضحت عيبًا ونحن أحوج ما نكون لها فى هذا الموضع!! فالفعل الثورى والثورة بصورة عامة أمر مستجد لابد له من فقهاء وعلماء ورجال سياسة واجتماع وغيرهم قادرون على فهمه واستيعابه وتشريحه وتحديد معالمه ووضع التوصيات والأحكام الشرعية المتعلقة به بما يتفق مع الفطرة النقية التى سبقت عقولاً "حشرت" المعلومات والأحاديث والآراء الشرعية فى عقولها وأفئدتها "حشرًا" ولم تفد به شيئًا فى وقت كانت الحاجة إليهم ماسة، فى وقت رأوا أن هذه الثورة فتنة – إلا من رحم الله منهم – وكالعادة اعترفوا بها متأخرين بعدما سبقهم من يُطلقون عليهم "العامة" إلى تحرير أنفسهم وهؤلاء المكبلين بأفهام مغلوطة من نير الطاغوت مؤكدين بذلك قول النبى الأكرم صلى الله عليه وسلم "إن الله لا يجمع أمتى أو قال أمة محمد صلى الله عليه و سلم على ضلالة ويد الله مع الجماعة" كل الجماعة وليس فئة أو طائفة أو فصيل! ولذلك فإن آفة هذا الوقت التعصب للفريق/الشيخ/المسئول وتسفيه كل ما عداه من أقوال وآراء ولو كانت لشاب يافع لا يملك من حطام المعرفة إلا الصدق والفطرة النقية، أيتها الرموز الإسلامية إنه يتابعكم ويثق فيكم ملايين من البشر فكونوا على قدر المسئولية واصدقوا مع أنفسكم والزموا الصمت فى وقت لا ينفع فيه الكلام؛ وتكلموا فى وقت لا ينفع فيه الصمت؛ واحرصوا على فهم الواقع بصدق، وأوسعوا الخريطة الإدراكية لكم لتعرفوا أن الواقع أشد تركيبية وعمقًا من مجرد أن هذا معى وهذا ضدى.