تجتاح العالم لوثة من الجنون تحت اسم الإرهاب، جنون دموي مخيف، يفتت كيانات دول، ويهز أخرى، ويزرع الرعب في قلوب الناس، يريق أنهارا من الدماء البريئة، ويعطل الحياة، ويدفع إلى إجراءات إضافية من التشدد الأمني، أو القمع السلطوي، ضربات الإرهاب تتنوع بين الأعمال الفردية الثأرية، وبين الأعمال المخططة المنظمة التي تمارسها حركات وجماعات شاردة خارجة عن سلطة القانون والنظام العام والضمير والأخلاق، والطامة أن هناك إرهابا تمارسه أنظمة حاكمة، إما بالانخراط المباشر فيه بتحول الدولة إلى عصابة وجماعة منفلتة من كل قيد يحكم ويضبط عملها في إطار الدستور والقانون، أو عبر سياسات مجحفة ظالمة تدفع إلى زرع التطرف في المجتمعات، وستجد نماذج لتلك الأنظمة في الشرق الأوسط الكبير، حتى وإن تدثرت بشعارات المسؤولية الوطنية، والحفاظ على كيانات الدول، ورفعت شعارات ديمقراطية، وحازت على الاعتراف الدولي بها، والتعامل معها. ما الفارق بين شخص أو منظمة تروع وتقتل خارج القانون، وبين دولة أو سلطة تروع وتقتل خارج القانون أيضا، الحالتان متشابهتان، وكلتاهما تنتهكان سلطة القانون، وتسقطان سلطة الأخلاق والضمير والعقد الاجتماعي الحاكم للعلاقات. لا يكاد يمر يوم في هذا العالم إلا ويقع تفجير هنا، أو هناك، يقتل ويدمر ويجعل الأمن والاستقرار أملا بعيدا، وإذا تأخر التفجير أياما أو أسابيع فإن سيف التهديد به يظل مسلطا على رقاب الدول والشعوب، كبرى وصغرى، متقدمة ونامية ومتخلفة، لماذا كل هذا العنف وتلك الوحشية والبربرية في القتل والترويع من بنجلاديش في جنوب شرق آسيا التي شهدت مؤخرا جريمتين إحداهما كانت مجزرة فعلية، إلى الولاياتالمتحدة في غرب العالم حيث فتح مهووس النار في ناد ليلي فقتل 49 شخصا، وما بين البلدين المتباعدين يستوطن الإرهاب في العراق، وقد جاء تفجير الكرادة الأخير ليكون الأضخم والأكبر في عدد القتلى - نحو 300 قتيل - منذ الاحتلال الأمريكي في 2003، علاوة على جرائم ميليشيات الحشد الشعبي، المدعومة من سلطة حكم طائفية، والتي لا تقل في بشاعتها عما يرتكبه تنظيم داعش، وسوريا باتت هى الأخرى مزرعة لتفريخ الإرهاب الذي تمارسه منظمات وميليشيات وافدة على هذا البلد، كما يمارسه النظام ضد الشعب الذي صار إما قتيلا أو محاصرا أو مرعوبا أو مشردا، والدولة باتت مهددة بالزوال من على الخريطة، ولا يختلف الأمر كثيرا في الفوضى والتطرف في اليمن وليبيا والصومال الذي لا يريد أن يبرأ من هذا الداء رغم عقود من التفكك والدماء، والإرهاب لا يترك أوروبا في حالها آمنة مستقرة حيث يضرب في فرنسا وبلجيكا ويثير القلق في عواصمها الأخرى التي تتحسب لعملياته في أية لحظة، وإفريقيا جنوب الصحراء لها نصيب من الإرهاب العابر للحدود، وحتى المناطق المقدسة لا تسلم من يد الإرهاب الغادر في المدينةالمنورة وبالقرب من الحرم النبوي الشريف، ورغم أن الجرأة على المقدسات ليست جديدة فقد سبق وتعرض لها المسجد الحرام وضيوف الرحمن في مكة عام 1979 إلا أن تكرارها بعد سنوات طويلة يكشف عن أن أجيال الإرهاب التي تتوالد وتنتقل إليها أفكاره المشؤومة ليست في وارد المراجعة والتقييم والتراجع عن الأفكار والأفعال الشنعاء، فلا محرم عندها، ولا مقدس في عقلها المسكون بالدموية والذي يستهين بقداسة وعصمة الدم، وهو يتفوق على قداسة المكان عند الله، ومن يستبيح الدماء أيا كان لون بشرة صاحبها أو معتقده الديني أو هويته وجنسيته وعرقيته فلن يفكر في المكان مهما كانت قيمته الدينية والروحية عند المؤمنين به. التطرف والغلو يغزوان العالم بأشكال مختلفة، وتحت عناوين وشعارات ووفق أجندات متنوعة، ولا يفرق بين بلد متقدم متحضر، وآخر غارق في الجهل والفقر والاستبداد، وهو لا يرتبط بدين أو عرق أو ثقافة معينة، ومؤخرا أطلق مواطن بريطاني ينتمي إلى اليمين القومي المتطرف النار على نائبة في مجلس العموم فأرداها قتيلة لأنها كانت تدعم بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وهو كان مع خروجها، هذا الشخص مارس الإرهاب الصريح، وهو القتل العمد لإسكات صاحب الفكر والرأي المختلف معه، رغم أنه ولد وتربى في مجتمع منفتح يؤمن بحرية الفكر وحق النقد والاختلاف، وهناك آخرون مثله في الغرب جاهزون للقتل بذرائع وطنية وقومية متطرفة، وهناك جماعات وحركات سياسية ودينية منظمة تناهض الأجانب والهجرة واللجوء، ومع انعزال بلدانها، وتتبنى مواقف شديدة التطرف والعنصرية تنتمي إلى نفس الأيدلوجية الإقصائية الاستعلائية الانغلاقية التي تتبناها الجماعات الشرق أوسطية المتطرفة، لكن الفارق أن تشدد داعش والقاعدة وأخواتهما مثلا هو دموي صرف، وخارج عن قواعد ونظم وشرائع الدول، بل هي كلها في حالة حرب مع دولها ومع كل بلد تنشط فيه، بينما جانب كبير من تطرف هؤلاء نظري، ومغلف بأفكار سياسية واقتصادية واجتماعية ووطنية ضيقة، ولا يكون التعبير عنه بالسفك المباشر للدماء، إنما بالنشر الواسع للكراهية والتعصب والعنصرية، علاوة على أنهم يعملون في إطار الأنظمة القائمة، ويخضعون لسلطة القانون والمراقبة والمحاسبة في بلدانهم. والحديث موصول. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.