البحث عن شماعة لأخطائنا وسوء تقديرنا للأمور وفشلنا أصبحت ظاهرة عربية بامتياز في السنوات الأخيرة ، وتقريبا لا يكاد يفلت من أسرها تيار فكري أو سياسي ، من أقصى اليمين الديني إلى أقصى اليسار الاشتراكي ، نظم حاكمة أو حركات معارضة ، الكل يهرب من مسئوليته بافتراض أخطاء "الآخرين" وبافتراض مؤامرات "الآخرين" وبافتراض عرقلة المسار على يد "الآخرين" ، ونادرا ما يعترف أحد بالحقائق ، ويصل الكلام هنا إلى مستوى مدهش من تسطيح العقول وتبسيط الظواهر الاجتماعية . الجدل المتصل بظاهرة تنظيم "داعش" الإرهابي يعتبر أحد أبرز فصول هذه الظاهرة عربيا ، وداعش اخترقت عشرات الدول ، واجتذبت آلاف الشبان ، ينحدرون من أصول عرقية مختلفة ، ومن مناهج تعليمية متباينة ، ومن محيط ثقافي وأخلاقي مختلف جدا ، ومن بيئات حضارية جد مختلفة ، ومع ذلك تجد البعض يستسهل أن يقول لك بحكمة العارف الواثق ، أن المناهج التعليمية في الأزهر أو في السعودية هي السبب في وجود داعش ، وأن الأفكار الوهابية أو الأفكار التي تدرس في الأزهر هي أفكار داعشية ، ولولا تلك المناهج ما ظهرت داعش ، وعندما تذكر أحد هؤلاء الجهابذة بأن مناهج الأزهر هذه تدرس على مدار ألف عام فلماذا لم تظهر داعش إلا في العشرية الأخيرة فقط ، لا تجد جوابا ، وعندما تسأل أحدهم ، لماذا لم تظهر داعش في الفكر الوهابي طوال ثلاثمائة عام وظهرت فقط في العشرية الأخيرة ، لا تجد جوابا ، وعندما تسأل أحدهم : مناهج الأزهر هي التي خرجت لنا العلماء والأدباء والشعراء والقمم الفكرية والقيادات الثورية المستنيرة التي قاومت الاحتلال الفرنسي ودحرته ، فلماذا لم تخرج لنا الدواعش المزعومين إلا في السنوات العشر الأخيرة ، لا تجد جوابا ، وعندما تذكر هؤلاء بأن علماء السعودية الذين يواجهون الدواعش ويجرون لهم مراجعة فكرية في السجون يفعلون ذلك بمرجعية نفس تراث الشيخ ابن عبد الوهاب ، والجنود الذين يواجهون داعش تربوا على مناهج الوهابية ، والوزراء والأمراء كذلك ، ومئات الآلاف من خبراء الاقتصاد والطب والهندسة والبترول من السعوديين هم أيضا أبناء نفس هذه المناهج التي يزعمون أنها خرجت الدواعش ، فلماذا لم يكونوا دواعش هم أيضا ، ولماذا حاربوا الدواعش ويقاومونهم ويدحرونهم فكريا ودينيا وإعلاميا ، لا تجد إجابة منطقية . في مصر تحديدا ، يحلو للمثقفين المغتربين فكريا والمخاصمين للفكر الإسلامي بشكل عام ، أن يحدثوك عن "الغزو الوهابي" في الثقافة والإعلام والذي نجح في تغيير هوية المجتمع المصري ، وهم يقصدون بعض مظاهر الإحياء الإسلامي من مداومة الشباب على المساجد والتزام النساء بالحجاب وانتشار اللحية ، رغم أنها أصبحت موضة الآن ، وحب سماع القرآن ودراسة السنة أكثر من سماع الموسيقى ، وهؤلاء الجهابذة لا يشرحون لنا كيف نجح هذا الغزو "الوهابي" المزعوم في هزيمة الثقافة المصرية وصياغة عقل وروح عشرات الملايين من الشعب المصري ، وعندما نتذكر أن السلطة الرسمية الكاملة في مجال الإعلام والثقافة والدين والتربية والتعليم والسينما والفنون والفكر ، كانت حكرا على خصوم التيار الإسلامي ، وكان جميع الوزراء والقيادات التي تحكم قبضتها على هذه النواحي جميعا ، وبكل إمكانيات الدولة وجبروتها ، كانت ملكا لهم ، وخاصة لليسار ، فلماذا رغم امتلاكك كل هذه الإمكانيات والسلطات فشلت في منع الغزو المزعوم ، ولماذا لا تعترف بأنك فشلت أو أنك كنت تحمل أفكارا معادية لضمير مجتمعك وهويته ، لا يهضمها ولا يشعر بالأمان الفكري والروحي معها ، ولماذا لا تعترف بأنك كنت تعاند التاريخ والحضارة وجذر المجتمع عندما كنت تحاول أن تفرض عليه أفكارا وقيما ليست نابعة من تراثه ومن حضارته ومن هويته الحقيقية المتجذرة في عمق التاريخ ، لماذا لا تعترف أنك حاولت ممارسة القمع الفكري والثقافي على مجتمعك فهزمك المجتمع وقرر العودة إلى "الجذور" وإلى هويته الحقيقية ، وتمرد على سلطتك وسلطانك واستبدادك واستقوائك بحكومات مستبدة حاولت تزوير الهوية كما تزور الانتخابات ، وكنت شريكا لها في كل ذلك ، لماذا لا تعترفون . وبالعودة إلى داعش ، فداعش هي ناتج بلطجة سياسية أمريكية وبريطانية في المنطقة ، وخاصة في العراق وأفغانستان ، نتج عنها شقوق وفوضى سياسية وتمزقات اجتماعية وطائفية دموية وفراغ سلطة مكن لتلك المجموعات المتطرفة أن يكون لها شوكة وأرض وقدرات ومراكز لتصدير العنف والانتحاريين ، وقد اعترف التقرير الرسمي البريطاني "تقرر تشيلكوت" بذلك وهو يقيم نتائج مشاركة بريطانيا في الحرب على العراق ، وسوف تتبخر داعش فقط عندما ينتهي "المستنقع السياسي" الذي تتغذى عليه ، ويعم السلام والعدل ، داعش فقاعة سياسية عارضة ستنتهي حتما عما قريب ، لكن الذين يتصورون أن داعش ستنتهي إذا قال لها شيخ الأزهر "قال الله وقال الرسول" أو أولئك الذين يتصورون أنك إذا علمتهم الموسيقى والفن ستتهذب وحشيتهم ويتركون السلاح ، هؤلاء مهرجون وسذج ومسطحون فكريا أو انتهازيون يصفون حساباتهم مع خصومهم الفكريين بتلك اللعبة ، حتى لو تقدموا في ثياب مفكرين أو نخبة ، هؤلاء مزورون للواقع ومضللون للأمة ومتسترون على جرائم البلطجة الأمريكية والبريطانية في المنطقة ومعطلون لسبل العلاج والإصلاح .