المأساة التى كان ميدان " مصطفى محمود " مسرحا ً لها ، والتى انتهت بفاجعة مقتل 27 من اللاجئين السودانيين ( حتى الآن ) ، وجرح العشرات ، واعتقال نحو 2500 شخصا ً ، ونقلهم " مأسورين " إلى معسكرات الأمن المركزى فى طرة ، ثم على أطراف القاهرة ، لا يجب أن تمر كغيرها من المآسى ، مرور الكرام ، دون أن نتوقف أمامها ، بكل اهتمام وإحساس بالمسئولية ، للتساؤل عن مغزاها ودلالاتها . فأخطر ما يمكن استخلاصه ، من متابعة وقائع هذه " التراجيديا السودانية " ، هو السهولة والبساطة التى يتم بها إزهاق الأرواح فى هذا البلد التعيس ، الذى كان وديعاً ، وسمحا ً ، يوقر الخلق ، ويحترم الحياة الإنسانية ، ويخشى الله فى تعامله مع الكائن الحى ، ولو كان حتى حيوانا ً يدب على أربع ، فكيف انقلبت هذه الوداعة إلى هذه الصورة المفزعة من العنف والعدوانية ؟! ، وليس بين الحاكم والمحكوم وحسب ، وإنما بين أبناء الوطن ذاته ، وإلا َفليفسر لى من يملك رأياً آخر ، معانى ما حدث فى الإسكندرية منذ شهور ، وما حدث فى محافظة المنيا – فى المذبحة الأخيرة – منذ أيام ، وما يحدث يومياً آلاف المرات ، فى السلوك العام للمجتمع ، الذى أصبح نفاذ الصبر والاحتداد علامة دالة من علاماته ، بعد أن كان التسامح والرضا والابتسامة والوداعة هى سماته الرئيسية وأوضح معالمه التى يعرفنا بها القاصى والدانى !! . وبوضوح وبدون لف أو دوران ، أقول أن النظام الحاكم هو المسئول الأساسى عن هذا التحول الخطير ، فبعد نحو ربع قرن من حكم نظام استسهل استخدام البطش فى مواجهة معارضية ، واستباح حرمات خصومه ، وتحولت خلاله السجون والمعتقلات ، بل وحتى أقسام الشرطة ، إلى سلخانات بشرية لكل من يدخلها : هانت الحياة الإنسانية حتى أصبحت لا تساوى قلامة ظفر ، وأصبح إزهاق أرواح البشر أيسر من اليسر ذاته لدى بعض أصحاب السلطة والنفوذ ، من كبار الضباط والمسئولين ، بل وحتى من ذوى الحيثية ومليونيرات هذا الزمن الأغبر !! . وضاعفت الأزمة الاقتصادية الطاحنة من هذا المسار الحرج ، إذ ضاق الوادى بناسه ، وأصبحنا مثل حيوانات محصورة داخل قفص حديدى – بعد أن فشل النظام فى بناء حياة تليق بالآدميين لمعظمنا – نتقاتل على موقع قدم ، ونتطاحن على الفوز بلقمة ، ونتصارع على شربه ماء ، أو نسمة هواء ، أو حتى مساحة يسيرة ننام فيها نومتنا الأخيرة ، دون أن تقلقها زغاريد الأفراح ، ودقات الدفوف – وسط المقابر – فى الليالى الملاح ! . واستمرأت السلطة هذا الوضع غير الإنسانى ، فراحت تدهسنا بسنابكها القاسية ، وحينما حاولنا التمرد ، أو حتى مجرد الاعتراض ، لم يكتف النظام بما يملكه من ترسانات القمع ، وحشود وحوشه المدربة على الافتراس ، بل استعان بالبلطجية و " خريجى " السجون ، والمجرمين والخطرين ، فى مواجهة أولئك الذين تصوروا أن من حقهم الاختيار ، وبإمكانهم أن يقولوا : " لا " !! . حدث هذا فى مظاهرات حركة " كفايه " ، وأبرزها يوم الاستفتاء الدامى ، يوم الأربعاء الأسود ( 25 مايو 2005) ، حينما تم سحل الشباب وانتهاك أعراض الفتيات فى الطريق العام ، وبواسطة بلطجية الحزب الوطنى ، وبمباركة ورعاية جنرالات مباحث أمن الدولة ( ! ) . ثم حدث بعدها ، مرارا ًَ وتكرارا ً ، وعلى مستوى أوسع وأكبر ، فى التعامل الأمنى البشع مع أهل العريش وسيناء بعد انفجارات طابا ، ثم فى الانتخابات النيابية الأخيرة ، ورآها الكون كله ، بما لا يحتاج لمزيد من الشرح ! . لقد أصبح العنف سيد الساحة ، والبلطجة و " السنج " والمطاوى و " الجنازير " ، هى " عدة الشغل " ، والقهر هو الغاية ! . ومن يجروؤ على فتح فمه ، فمصير د. عبد الحليم قنديل ، ( الذى اُختطف وُنزعت عنه ملابسه وُألقى فى غياهب الصحراء ، بعد " التعامل " اللازم معه ، بما يليق بمن يتحدى " أولاد الأكابر " !! .. ) فيه عبره لمن يعتبر ، أو ما حدث للإعلامى اللامع " أحمد منصور " على مداخل مكتب قناة الجزيرة بالقاهرة ، فيه من الدروس الكثير والكثير !! . بل وأكثر من هذا ، فالذين مارسوا هذه الاعتداءات البشعة لم ُيلفت نظرهم حتى أو ُيعاقبوا ، بل رأيناهم ُيكافأون وُتسبغ عليهم أستار الحماية ، مثلما فعل النظام مع " بطل " يوم 25 مايو المشار ، إليه اللواء " نبيل العزبى " ، مدير أمن القاهرة السابق ، الذى تم ترقيته مؤخرا ً إلى منصب محافظ أسيوط ( بدرجة وزير ) ، تقديراً لجهده المشكور ، وترسيخاً للقيم الجديدة التى بات لها الاعتبار والتبجيل ، قيم العنف والعسف ، والعدوان وإرهاب الدولة ! . ومن هنا فما حدث فى " التراجيديا السودانية " ، هو أمر طبيعى ، ومقر ، ولا يمثل – بالنسبة للنظام الحاكم – جديداً أو خروجاً على الأعراف ، فمن استباح دم شعبه ، دون أن يطرف له رمش ، لن يكون صعبا ً ، عليه أن يفعل ما فعل مع آخرين ، حتى لو كانوا من السودان الشقيق ، الذى تربطه بمصر أواصر الدم والدين والتاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة والحيوية أيضا ً !! . لكن الأغرب من ذلك لم يكن موقف نظامنا من اللاجئين السودانيين ، واستئساده فى مواجهة أطفال وشيوخ ونساء عزل ، فى ليل بارد قاس ٍ ، كليل الجمعة السوداء الذى حدثت فيه المجزرة المشينة ، وحسب ، وإنما موقف الحكومة السودانية البائس ، الذى لم يفتح الله عليها بكلمة واحدة ، تدافع بها عن مواطنيها ، أو تعترض فيها – ولو على استحياء – على مصيرهم المأساوى . . بل المدهش حقا ً أن مسئوليها قدموا التغطية السياسية لهذه الجريمة ، وبرروها ، ودافعوا عن مرتكبيها ! . * * * * فى يوم من الأيام سيأتى حتما ً سيدفع فيه كل مجرم ثمن جريمته ولن يهرب قاتل من دم المقتولين ، الأبرياء ، غدرا ً وغيلة ! فسلام على الضحايا والشهداء وعهد بألا تنام عيوننا حتى تجئ لحظة الحساب ! [email protected]