إذا كنت من هؤلاء الذين يستسلمون لمتابعة وسائل الإعلام المصرية دون تدقيق أو مراجعة، أو يكتفون بالاستماع إلى ادعاءات أصحاب المصلحة دون تقص أو إحاطة بالقضية موضوع الخلاف، فلا شك أنك تشعر الآن بأن نحو 400 ألف من أبنائنا، الذين يخوضون امتحانات الثانوية العامة، راهناً، يواجهون «مجزرة بشعة»، تستهدف إفساد حياتهم، والقضاء على مستقبلهم. تثبت الحكومة كل يوم أنها غير قادرة على إدارة حياة المواطنين بالنزاهة والرشد اللازمين، ويبرهن نظام التعليم الحالى على افتقاده الكفاءة والفاعلية، ولا تقوم أطراف العملية التعليمية بدورها المفترض، ويرتكب معظمها آلاف المخالفات اليومية، التى تجر علينا المرارة والفشل، لكن طلاب الثانوية العامة لا يتعرضون ل «مجزرة»، والامتحانات لا تشكل «صدمة»، والأمر لا يستلزم حفلات «الندب الجماعى»، التى تنصبها الصحف والفضائيات، وينخرط فيها المواطنون فى البيوت والمنتديات. ثمة حالة من التواطؤ والتنطع تهيمن على مقاربة معظمنا لموضوع الثانوية العامة، وهى حالة تحولت إلى «فوبيا» عامة، بحيث اكتسبت سلطة استراتيجية على عقلنا الجمعى، حتى بات أكثرنا حكمة وخبرة ومسؤولية غير قادر على انتقادها أو مواجهتها أو تفنيد عوارها، وراح الآخرون يحتالون بها على ضعفهم وخوائهم وقلة حيلتهم. ليس هناك بيننا من هو قادر على الوقوف بقوة مدافعاً عن نظام التعليم فى مصر، فقد أثبت هذا النظام تردياً واضحاً وبرهن على تخلف مقيم، وليس هناك من يستطيع ببساطة الادعاء بانطواء النظام العام فى البلد على الحد الأدنى اللازم من آليات تحقيق العدالة وضمان شفافية المنافسة، لكن الثانوية العامة مع ذلك تبقى حجة نادرة، لمن يريد الدفاع عن قيمة تكافؤ الفرص. يتراجع التعليم الحكومى تحت وطأة الفساد وانحسار الموارد وتردى الإدارة، ويمنح التعليم الخاص الفرص غير العادلة لمن يملكون المال، ويحجبها عن الفقراء والمهمشين، لكن الثانوية العامة تبقى، مع هذا وذاك، مضماراً لتنافس أكثر نزاهة من غيره، وميداناً لفرز أصحاب الهمم والمواهب، رغم ما تنطوى عليه من خلل، وما يعتريها من قصور. اصطادت الصحف صوراً لطالبات انهرن على أبواب اللجان، وأولياء أمور يحملون على «الجزارين والسفاحين» واضعى الامتحانات، وفتحت الفضائيات الخطوط الساخنة لتلقى الشكاوى وتداول الصرخات الاحتجاجية ووصلات البكاء، حتى خُيل للجميع أن جريمة قد ارتكبت فى حق الطلاب، وأن الامتحانات إنما وضعت لتقصف أعمارهم وتغتال أحلامهم.. وصدق البعض هذه الأكذوبة، وراح يطالب بضوابط وإعادة تقييم و«عقاب» للمسؤولين عن «المجزرة». يخوض 32 فريقاً منافسات الدور الأول فى بطولة كأس العالم، راهناً، ويعرف كل طالب من طلاب الثانوية العامة، الذين يهتمون بكرة القدم، أن نصف هذه الفرق فقط سيصعد إلى الدور الثانى فى البطولة، ويعرف أيضاً أن صعود الفرق لا يتحقق عند إدراك عدد معين من النقاط، وإنما المسألة تحسم بترتيب الفرق المتنافسة فى إطار كل مجموعة، فيصعد الأول والثانى ويغادر الاثنان الباقيان. تتنافس أربعة فرق فى كل مجموعة من المجموعات الثمانى، لحجز بطاقتى صعود إلى الدور الثانى، ويحظى الفريق الأول فى أى مجموعة بفرصة إضافية، إذ يقابل فريقاً أضعف نسبياً فى دور ال 16، لكون هذا الأخير لم ينجح سوى فى احتلال المركز الثانى فى مجموعته. الثانوية العامة لا تختلف كثيراً عن هذا الترتيب، فهى ليست تنافساً رقمياً بين الطالب والامتحان، لكنها عملية فرز للطلاب عبر وضعهم على المحك ذاته، واختبار قدراتهم ومهاراتهم ومعارفهم وتوازنهم النفسى والعصبى، من خلال إخضاعهم للظروف ذاتها، فى الوقت ذاته، وفى مواجهة الأسئلة نفسها. لا يعنى شيئاً أن يفشل طالب فى فهم سؤال ما، ولا معنى محدداً لإخفاق آخر فى الإجابة عن نصف الأسئلة، كما لا تترتب نتيجة مباشرة على نجاح طالب ما فى الحصول على الدرجة القصوى فى إحدى المواد، لكن الفيصل يتعلق بترتيب الطالب بين زملائه، أى المكانة التى استطاع أن يحتلها بينهم، استناداً إلى أدائه فى الامتحان. تتكرر الأكاذيب ذاتها عن الثانوية العامة فى كل سنة، ونسمع الصراخ والحجج والادعاءات نفسها، ولا أحد يقف ليقول بوضوح إن الدرجات التى يحصل عليها طالب فى نهاية الامتحان ليست عنواناً لأدائه، ولا انعكاساً مباشراً لقدرته، ولا إشارة واضحة للمقعد الذى سيحتله فى التعليم العالى، لكن الفيصل والمحك فى المكانة التى منحتها تلك الدرجات للطالب بين زملائه. يصرخ الطلاب مدعين، وربما مصدقين، أنهم تعرضوا لانتهاك واعتداء مباشر على حقوقهم، لأن «الأسئلة غير مفهومة ولم تكن من المنهج»، وينهار أولياء الأمور، مصدقين أو مدعين أيضاً، وتنصب الفضائيات والصحف الحفلات عن «المجزرة» و«الصدمة» و«المذبحة» و«الإغماء» و«حالات الانتحار»، وينشر الكتاب مقالاتهم، ويقدم أعضاء البرلمان طلبات الإحاطة والبيانات، فيصدق الجميع ما يحدث، إلى الحد الذى تضطر وزارة التعليم عنده إلى إظهار «تفهمها» وربما «تراجعها»، فتعيد توزيع الدرجات وتقييم الامتحانات. وإلى أن نخرج جميعاً من النفق المعتم الذى دخلناه فى شتى مجالات العمل الوطنى، وإلى أن نبدأ فى إصلاح نظامنا التعليمى الموشك على الانهيار، فلندافع جميعاً عن الثانوية العامة بشكلها الراهن، ونغل أيادينا عنها، ونخفف قليلاً من تواطئنا العام عليها.