تحلَّل الدولة.. أو تراجع هيبتها.. هو عنوان الأيام الأخيرة التى شهدت أحداثا بالغة الخطورة تهدد السلم الأهلى والتماسك الوطنى وتفتح أوسع الأبواب أمام انتشار، وانتصار الفوضى. وهو السيناريو الذى حذر الكثيرون– ونحن منهم– من أن يصبح سيد الموقف فى ظل استمرار حالة «الاحتباس الديمقراطى» المزمنة المستندة إلى «توازن الضعف» بين حكم عاجز عن الوفاء بالحد الأدنى من وظائفه البديهية وبين معارضة مشلولة ومحاصرة ولا حول لها ولا قوة. لكن أصواتاً أكثر فى حزب الحكومة وحكومة الحزب دأبت على تسفيه هذه التحذيرات، والتهوين من شأنها، متذرعة بشعارها الأزلى الذى يزعم أن «كل شىء تمام». وإذا بالأمور تتطور بسرعة غير مألوفة– فى بلاد اعتادت السير بسرعة السلحفاة خاصة إذا تعلق الأمر بالإصلاح عموما– وتفرض «الفوضى غير الخلاقة» نفسها على المشهد المصرى العام. حيث الكنيسة القبطية، ووراءها ملايين من المسيحيين المصريين، ترفض الإذعان لأحكام القضاء، بل تعتبر هذه الأحكام اعتداء سافراً على حرية العقيدة.. ومازال الصدام بين الكنيسة والسلطة القضائية قائماً ومحتدماً ومنذراً بعواقب وخيمة. وحيث تحول خلاف بين أحد المحامين وعضو من النيابة العامة فى أحد الأقاليم إلى شرارة أشعلت حريقاً بين عموم رجال القضاء الواقف- وعلى رأسهم نقابة المحامين- وبين عموم رجال القضاء الجالس وعلى رأسهم نادى قضاة مصر. وعندما تشتعل الفتنة فى عقر دار «العدالة» ذاتها.. فماذا عسانا أن نتوقع أن يحدث فى البيت المصرى ككل؟! أو ليس وصول الفوضى إلى حد تجاسر تلميذين– أى طفلين مراهقين– على إشهار السيوف فى وجه أحد المراقبين لمحاولته منعهما من الغش.. مجرد مثال بالغ التفاهة لكن فى نفس الوقت بالغ الدلالة. لكن ما يلفت نظرنا فى مشهد الفوضى الذى يفقأ العيون أمران: الأمر الأول هو تعليق كل شىء– كالعادة– فى رقبة الرئيس. والأمر الثانى هو الحصاد المر لتجربة «تحرير» الحزب الوطنى الحاكم لمؤسسات المجتمع المدنى، وإصراره على وضع «رجاله» على رأس هذه المؤسسات. فقد رأينا أن الحزب الحاكم حرص على اختراق معظم هذه المنظمات الأهلية، ومن أهمها نادى القضاة ونقابة المحامين على سبيل المثال، واستباح لنفسه استخدام كل الوسائل– المشروعة وغير المشروعة– للوصول إلى هذه الغاية، ألا وهى «تحرير» هذه المنظمات من كل من هو غير محسوب على الحزب الوطنى، علماً بأن كلمة «تحرير» هذه هى التى استخدمها مهندس الحزب الوطنى أحمد عز فى معرض الإعراب عن فرحته الطاغية بنتائج الانتخابات الأخيرة لنقابة المحامين! وما حدث فى نقابة المحامين حدث فى منظمات أهلية أخرى، ولم يكن نادى القضاة ذاته– ومع عظيم الاحترام لقضاء مصر– بمنأى عنه. وصوَّر قصر النظر لأصحاب هذا المنهج أن وجود «رجالهم» على رأس هذه المنظمات الأهلية سيكون «صمام أمان»، لكن سرعان ما برهنت تجربة الواقع الحى أنهم «عنصر تفجير». فلم يسبق أن رأينا مثل هذه الفتنة المروعة التى نشبت فى بيت العدالة عندما كانت نقابة المحامين- أو نادى القضاة- «مستقلة» عن الحكم، بل حتى عندما كان على رأسها شخصيات محترمة من «المعارضة». وهذه مسألة لا تلفت النظر فقط وإنما تستحق تحليلاً معمقاً فى مقال مستقل. أما المسألة الأخرى الخاصة بتعليق كل شىء فى رقبة الرئيس، فهى ليست بالأمر الجديد، وهى على كل حال تكشف أن المؤسسة الحقيقية صاحبة السلطات الفعلية هى مؤسسة الرئاسة، أما ما دونها من مؤسسات فهى مجرد «سكرتارية» للرئيس. ولنأخذ ما يحدث حالياًً من انفلات وفوضى كمثال، وسنجد أن كل الأنظار تتعلق ب«مؤسسة» واحدة، هى «شخص» الرئيس. ولذلك لم يفاجأ أحد من مانشيتات تبشرنا بأن «الرئاسة ترعى مفاوضات لإنهاء أزمة القضاة والمحامين»، كما لم نفاجأ من تصريحات كثيرة تعلق آمالها على الرئيس للخروج من مأزق الصدام المخيف بين الكنيسة القبطية والسلطة القضائية. هذا المنهج ذاته هو الذى أفرز لنا تلك المعالجات أحادية الجانب لأحداث أخرى مثل فضيحة جزيرة آمون بأسوان حيث خرجت مانشيتات الصحف القومية تقول لنا بالبنط العريض «مبارك يأمر بإلغاء بيع جزيرة آمون بأسوان وطرحها بحق الانتفاع بالمزاد» وتحت هذا العنوان التمهيدى الطويل عنوان رئيسى باللون الأحمر «لا أحد فوق القانون». وبالطبع.. فقد فرحنا كلنا بتدخل الرئيس لوقف هذه الفضيحة، لكن عندما نقرأ ما هو مكتوب تحت هذه العناوين نفزع، حيث تقول لنا الصحف القومية إن مساحة 238 فداناً فى هذه الجزيرة الساحرة تم بيعها إلى شركة بالم هيلز المملوكة لكل من المهندس أحمد المغربى، وزير الإسكان الحالى، ومحمد لطفى منصور، وزير النقل السابق، بمبلغ 80 مليون جنيه، بما يعنى أن سعر المتر يبلغ 80 جنيها فقط، ولم تسدد منه الشركة سوى أربعة ملايين جنيه. ويضيف التقرير الإخبارى الممتاز الذى تصدَّر الصفحة الأولى ل«الأهرام المسائى»- ويستحق عليه رئيس تحريره طارق حسن التحية هو ومراسله من أسوان عز الدين عبدالعزيز– أن مناقشات أعضاء اللجنة الاقتصادية بمجلس الشعب كشفت عن وجود «بعض التحايل حول قانون المزايدات والمناقصات لإرساء المزاد الوهمى الذى أجرى لبيع المساحة على الشركة المملوكة لوزيرى الإسكان الحالى والنقل السابق». وبالطبع تنتهى هذه التقارير الإخبارية بتصريحات محافظ أسوان مصطفى السيد الذى أكد أن الرئيس مبارك أبلغه تليفونيا بتوجيهات إلغاء الصفقة، مؤكدا أنه تم إبلاغ جميع الجهات المعنية لتنفيذ توجيهات الرئيس مبارك. حسناً ما فعل الرئيس.. ولكن لماذا لم تتحرك جهة واحدة من الجهات المعنية، ولماذا صمتت الأجهزة الرقابية المتعددة عن هذه الجريمة، وإذا كانت قد علمت وأبلغت فمن الذى «غطرس على الفضيحة»؟ ولماذا صمت الوزيران الحالى والسابق، خاصة أن الموضوع قد فجره نواب من الحزب الوطنى ونشرته الصحف «القومية»؟ ويقول بعض الخبثاء إن وزيراً منافساً من مجموعة الوزراء رجال الأعمال هو الذى سرب هذه المعلومات نكاية فى الوزيرين السابق والحالى! ومن الذى يكبل أيدى الجهات المنوط بها سن التشريعات عن وضع آليات واضحة ومحددة تمنع تعارض المصالح وتضع خطوطاً فاصلة بين السياسة والثروة مثلما يحدث فى كل بلاد العالم.. تجنبا لهذه الفوضى «غير الخلاقة»؟! [email protected]