بنبرة يملؤها الحماس والتشنج، وقف أحد المبشرين يخطب فى المئات الذين تجمعوا فى «ركن المتحدثين» بمتنزه «هايد بارك» اللندنى الشهير، مؤكداً قرب نهاية العالم ومحذراً من «الثمن الذى ستدفعه البشرية لخطاياها»، فيما ارتسمت على وجوه المجتمعين حوله ابتسامات واسعة لا تتناسب وهول العذاب الذى يتوعدهم به. هذا المشهد يتكرر كل أحد تقريباً، مع اختلاف المارة وبعض المتحدثين الذين يواظب بعضهم على القدوم إلى «ركن المتحدثين» منذ نحو ربع قرن. لكن جمهور هذه الخطب لا ينصت عادة إلى الخطباء الذين باتوا يتنوعون ما بين مبشرين مسيحيين يشكلون الغالبية الأكثر تنظيماً، وناشطين إسلاميين يروّجون لتطبيق الشريعة فى أوروبا، ويهود يزعمون محاولتهم «إنقاذ» أتباع الديانات الأخرى، إضافة إلى بعض الفوضويين مثل «على السريالى»، وحتى من يعرضون أحضاناً مجانية على المارة! وتعكس تركيبة هؤلاء المتحدثين وجمهورهم الذى يتشكل معظمه من السائحين الراغبين فى التقاط الصور والتندر على الآراء المتطرفة للخطباء، التغير الذى شهده هذا الركن الذى كان مقصداً لمفكرين بارزين، مثل: كارل ماركس والروائى الشهير جورج أورويل، ونقطة تجمع لحركات احتجاجية بارزة فى تاريخ بريطانيا منذ انتُزع حق التجمع والحديث فى الأماكن العامة عام 1872. وبين بضع عشرات وقفوا يستمعون إلى ناشط إسلامى أمريكى أسود كان يتحدث عن مثالب الحضارة الغربية، كان اثنان فقط يشاركانه النقاش. ولايزال كثيرون يعتبرون «ركن المتحدثين» رمزاً لحرية التعبير، رغم تراجع أهميته مع ضمان القوانين التى استحدثت خلال القرن الماضى بحق التظاهر فى أى مكان وقلة إقبال المهتمين بالسياسة عليه. ويقول جاريث بن، وهو أحد القلائل الذين كانوا يتابعون النقاش باهتمام واضح، ل«المصرى اليوم»: «صحيح أن المكان لم يعد كسابق عهده، لكن هناك نوعاً من الارتباط به، يكون غالباً مدفوعاً بالحنين إلى الماضى». غير أن سامح ناجى - وهو مهندس مصرى كان يتجول فى «ركن المتحدثين» مع عائلته - ينظر إلى الأمر من زاوية مختلفة. ويقول ل«المصرى اليوم»: «لا يمكننى أن أرى هذا المشهد من دون أن أقارنه مع موجة المظاهرات والإضرابات فى مصر. معظم المتحدثين هنا لا يقولون شيئاً مفيداً، لكنهم على الأقل يقولون ما يريدون، والشرطة تتابع كل هذا ولا تجرؤ على التدخل إلا لمنع العنف». ويضيف: «الناس هنا انتزعت هذا الحق، ونأمل أن يحدث هذا فى مصر قريباً». لكن شقيقه أمير يقاطعه قائلاً: «إذا حدث هذا فى مصر، سيتحول رصيف مجلس الشورى وسلالم نقابة الصحفيين إلى متاحف فولكلورية للسائحين كما حصل هنا. الحكومة ستتفاخر بأنها تسمح بالمظاهرات، لكنها ستكون فى الحقيقة وضعتها تحت السيطرة فى محمية طبيعية». ويؤكد أن «حق التظاهر يجب أن يكون فى كل مكان».