فى 31 مايو من هذا العام اجتمع المجلس الأعلى للثقافة برئاسة الوزير الفنان فاروق حسنى، لمناقشة ورقة العمل المقدمة من اللجنة المكلفة بإعداد تصور عام لمؤتمر المثقفين المزمع عقده فى هذا العام، وكان الرأى السائد فى ذلك الاجتماع أن الثقافة فى مصر فى حالة «تراجع»، وأن من شأن هذه الحالة أن تسبب «إحباطاً» ليس فقط للمثقفين وإنما أيضاً للجمهور أو بالأدق لرجل الشارع. والسؤال إذن: إذا تداخل التراجع الثقافى مع الإحباط الثقافى فماذا تكون النتيجة؟ تخلفاً ثقافياً بلا زيادة أو نقصان. والتخلف مثل غيره من الظواهر الإنسانية، لا يبزغ فجأة، إنما يبزغ بالتراكم، ومن ثَم اقترحت أن يكون عنوان المؤتمر «تنمية التخلف» فاعتبرها أعضاء المجلس «طُرفة» والطرفة، لغةً، هى كل شىء مستحدث عجيب. والسؤال عندئذ: هل فى اختيارى لهذا العنوان ما يمكن اعتباره مستحدثاً عجيباً؟ جاءنى الجواب بالسلب فى خبر نشرته جريدة «الأهرام» فى اليوم التالى لاجتماع المجلس، هو على النحو الآتى: «أعلن اللواء مازن نديم، رئيس شعبة خدمات النقل الدولى، أننا متخلفون 50 عاماً على استخدام التكنولوجيا لخدمات النقل، وأن هذا التخلف هو سبب وقوع الحوادث على الطرق، التى يصل عدد الضحايا فيها إلى 12 ألف قتيل سنوياً». وأظن أن هذا الإعلان يمكن أن يكون مقدمة لإعلانات أخرى عن عدد سنوات التخلف فى وزارات أخرى، ومن ثَم يمكن القول بأن التخلف ظاهرة سائدة فى مصر، وأن الأصولية الدينية هى المسؤولة عن هذا التخلف بحكم أنها تدعو إلى السمع والطاعة، وبالتالى إلى منع إعمال العقل، وأن هذا التخلف قابل للنمو مع نمو الأصولية.. وهذا هو المعنى الذى قصدته من صكى مصطلح «تنمية التخلف»، وهو مصطلح يقال فى مواجهة مصطلح آخر مناقض له وهو مصطلح «تنمية التقدم». وقد فطن كوندورسيه، وهو من فلاسفة التنوير فى القرن الثامن عشر، إلى هذا التناقض وما ينطوى عليه من صراع، فى كتابه المعنون «صورة تاريخية عن تقدم العقل الإنسانى». قال: «لقد تابعنا العقل وهو ينمو نمواً بطيئاً بفعل التقدم الطبيعى للحضارة، وراقبنا الخرافة وهى تتحكم فى العقل فتفسده، وكذلك الطغيان وهو يفسد العقل، بيد أن النهار سرعان ما انبلج، فرأت العين نور الصباح بعد طول غياب فى الظلام، ولكنها لم تستطع مواصلة الرؤية، ولكنها مع الوقت اعتادت هذا النور فحملقت فيه من غير تراجع واستطاعت العبقرية، مرة أخرى، العودة إلى الأرض من جديد بعد أن طاردتها البربرية والدوجماطيقية». ومغزى هذا النص أن ثمة صراعاً قائماً، فى تاريخ البشرية، بين التراكم بالتخلف والتراكم بالتقدم، وأظن أننا، فى مصر، نشتهى التراكم بالتخلف إلى حد الإدمان، والإدمان يعنى الدخول فى مجال الخيال المرضى الذى يُعفى من ممارسة الفعل المغيّر للواقع، فيبقى التراكم بالتخلف بلا مقاومة، وإذا أردنا المقاومة فإنها لن تكون ممكنة من غير أن نكون على وعى بأسباب هذا الإدمان للتخلف، وفى تقديرى أن الوعى بالتخلف هو المولّد للوعى بالتقدم، لأن الضعيف هو المولّد للقوى وعكس ذلك ليس بالصحيح، وتاريخ الحضارة الإنسانية شاهد على ما أقول، فالفكر الأسطورى هو المولّد للفكر العقلانى، والعصور الوسطى المظلمة هى المولّدة لعصر التنوير. وتأسيساً على ذلك كله يمكن القول بأنه من الأفضل أن يكون عنوان مؤتمر المثقفين «تنمية التخلف» حتى نكون على وعى ب«تنمية التقدم».