ما أكثر الدراسات المصرية والأجنبية التى تم إجراؤها على مشكلة المرور بالقاهرة وبمصر عامة، وما أكثر الاجتماعات التى انعقدت من أجلها، والمعالجات الإعلامية والصحفية والرسومات الكاريكاتورية التى تناولت الموضوع، وفى المقابل ما أقل الجهود الحقيقية التى تم بذلها لإيجاد الحلول أو تطبيق المقترحات. لا أدعى هنا أنى سآتى بجديد، فإذا كنت قد طفت بلاداً عديدة ما بين أوروبا وأمريكا وآسيا ورأيت تجاربها والأفكار التى طبقتها، فقد فعلها غيرى مئات الآلاف، وعاد بعضهم ليكتب ما شاهد وعاين، أو ليوصى بعمل ما يمليه عليه ضميره كمواطن، أو كمتخصص إن كان متخصصاً، لكن بلا جدوى. لكن الزاوية التى أود التركيز عليها هى أهمية دراسة معضلة المرور من مدخل حساب عوائد الفوضى، وأعنى بذلك أن علينا أن ندرس رابطة المنتفعين بالفوضى (والخاسرين منها) وتركيبها الداخلى والآليات التى يتم بمقتضاها تحقيق عوائد من جراء فوضى المرور وتوزيعها على أعضاء الرابطة، لنعرف لماذا استقرت الفوضى كل هذا الوقت فى حياتنا دون أن تتولد إرادة حقيقة للتغيير. المشهد الراهن يقول بوضوح إن الكل - تقريباً - مستفيد من الفوضى بقدر ما هو مضار منها، وبسبب تلك المعادلة فشلت كل محاولات حل مأساة المرور بالقاهرة الكبرى.. ليست لدينا عزيمة مجتمعية كاملة تعمل على التغيير ومستعدة لدفع ثمنه والالتزام بقواعده ومعادلاته، من سائقى التوك توك والميكروباص إلى سائقى الجاجوار والبى إم والمرسيدس، من سكان المهندسين والزمالك و6 أكتوبر إلى سكان بولاق وصفط اللبن، من الشوارع الرئيسية الكبرى إلى الشوارع الجانبية والأزقة والحوارى، الكل فى محاولات التحايل والفهلوة والعشوائية وخرق القانون والقواعد والمنطق سواء بسواء. فى المقابل يجب التعرف على منافع النظام لندرك خسارتنا الجسيمة جراء غيابه.. ففى نيويورك ولوس أنجلوس هناك أزمات مرور وازدحام، خاصة فى أوقات الذروة، وهناك تكدس فى بانكوك وتايلاند وساوباولو. هناك اختناقات أيضاً من مطار شارل ديجول إلى العاصمة باريس ومن مطار هيثرو إلى لندن فى ساعات الصباح أو ساعة انتهاء العمل لكن كل تلك المدن وضعت منظومة تحظى بموافقة الجميع وسارت عليها، بحيث تشعر مهما كانت وطأة التأزم المرورى أن أى خروج على النظام يكلف ألف مرة أكثر من قيود الالتزام به. يثق الجمهور هناك أن «السيستم يعمل» ولذلك يسير كل قائد سيارة فى الخط المرسوم وهو «مغمض العينين» فلا أحد سينحرف فجأة ليدخل حارة غير حارته أو ليفلت ويمر كالثعبان من بين الجميع أو من فوق الأرصفة. لا أحد يمكن أن يحاول التذاكى بالدخول فى المعاكس أو السير فى الممنوع للإفلات من الزحمة. لا سيارات مركونة فى غير الأماكن المخصصة ولا فتونة أو خروج على الإشارات. أعداد السيارات الداخلة «جديداً» إلى الشوارع تم التخطيط لها وكذا أماكن الانتظار، كما يراعى فى تصميم أى مدن أو أحياء جديدة تفادى عيوب المدن القديمة والتحسب للمستقبل. هناك فى نهاية الأمر شوارع تمشى فيها وقواعد تحكم السائق والمشاة والقائمين على حماية النظام ومراقبته أما القاهرة فقد أصبحت حرفياً مدينة بلا شوارع ولا تسمح حتى بمرور عربات الإسعاف أو الإطفاء فى الحالات التى تستدعى فلا توجد شوارع أصلاً فى المناطق العشوائية وتحولت شوارع المناطق الراقية إلى مركن للسيارات فأين مخططينا ومهندسينا وأين رؤساء الأحياء والمدن ومسؤولى الإسكان والبوليس والنقل والتجارة وأين التنسيق بينهم؟. لا يمكن حل مشكلة المرور بقانون أو بعقوبات أو فتح محور هنا أو عمل دوران هناك المطلوب حقاً تفعيل منظومة من العمليات تشارك فيها كل الجهات السابقة فى تنسيق حقيقى، فمهما قيل عن رجال الشرطة فلا يمكن تحميلهم وحدهم «الشيلة» فهم مثلا لم يخططوا الشوارع أو المدن ولم يسمحوا باستيراد كل تلك السيارات ولم يأذنوا ببناء العمارات بلا جراجات أو بتحويل عمارات سكنية إلى مقار للشركات والبنوك أو تحويل الفيلات إلى أبراج. ومع التنسيق يتعين احترام المنهج العلمى الذى يقتضى التعرف على الوضع الراهن والخطط المستقبلية وجمع المعلومات ودراسة البدائل وإقرار معايير للمفاضلة بينها مع المتابعة الدقيقة والسريعة للتنفيذ وإيلاء العناية الواجبة لعناصر التدريب والتوعية والتثقيف واختبار السلوكيات عند استخراج أو تجديد تراخيص القيادة وغير ذلك مما أصبح من البديهيات. إن الأضرار التى تلحق بالبلاد من جراء مشكلة المرور ملموسة ومعروفة غير أن اللافت إن النظام المرورى أصبح من بين العوامل التى يتم من خلالها ترتيب تنافسية الدول وإنتاجيتها وجاذبيتها للاستثمارات والسياحة. وقد أدركت الدول أن التكنولوجيا الحديثة أصبحت من الأدوات التى لا غنى عنها فى حل مشاكل المرور، غير أن الأخذ بها متأخر كثيراً جداً فى مصر بل ويبدو وكأن هناك عدم حماس لها أو ربما مقاومة مع علم الجميع أنه لا مفر عن استخدام الكاميرات وأدوات الاستشعار عن بعد (وبعضها يتم دفنه فى جسم الطريق) والبث الذكى المرئى والمسموع للمعلومات عن الطرق والحوادث وأماكن الاختناق وطلبات الإغاثة، بل وتداول المعلومات بين قائدى المركبات وبعضهم البعض واستخدام الخرائط الرقمية وتوظيف نظم الملاحة الجغرافية «جى بى إس» فى التحذير من أماكن التكدس والتوجيه إلى البدائل.. إلخ. وتلك التكنولوجيا يمكن أن تفيد كذلك فى وسائل النقل الأخرى. إننا لم نكتف بالتخلف فى استخدام التكنولوجيا بل أصبح لدينا خوف وارتباك عند مناقشة أى جديد، وقد رأينا الهجوم العنيف على فكرة نقل العاصمة فى مقابل التأييد الشديد لها مع أن المنطق يقول إنه يمكن أن يكون هناك حل ثالث ورابع وخامس والمهم فيها جميعاً هو إيجاد تنظيم وتوزيع جغرافى استراتيجى لأماكن الأنشطة المختلفة (ZOONING)، بنفس المنطق يمكن التعامل مع أفكار أخرى تم تداولها مثل تسيير أرقام فردية مرة وزوجية أخرى أو تحديد عدد السيارات التى ستدخل الساحة كل عام وبيع تراخيصها فى مزادات يوجه عائدها لتحسين الطرق، أو بناء جراجات مكان الفيلات التى يتم هدمها. ضمور الفكر والإرادة لا يقلان خطراً ياسادة. * رئيس جامعة النيل